تتمثّل رواية الكاتبة الفلسطينية سامية عيسي "خِلْسةً في كوبنهاجن" -الصادرة عن دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولي، 2014م، وتقع في 319 صفحة- وضعية الشتات الأبديّ التي يعاني منها الفلسطينيون المرتحلون من مَنْفي إلي مَنْفي.ففعل "الخلسة" أو "الاختلاس" يوحي بمسالك التلصّص ودروب المراوغة، بما ترتبط به من تعرية للمسكوت عنه أو فضح للا مُعلَن.في هذه الرواية، رحلة شتات أسرة فلسطينية (تتكون من: صِدّيقة، حسام، فاطمة، عمر، ..) كانت تعيش في مخيّمات اللاجئين بلبنان، اضطرّتها ظروف الحياة إلي اللجوء إلي الدانمارك، غير أن منهم من ذهب إلي دبي أو النرويج، مبعثرين في بلدان المنافي، حتي جمعهم وطن متخيّل في مدينة "كوبنهاجن" الدانماركية. في الرواية تمثيلات سردية تتفجّر بحالات من الحنين المتدفّق إلي فلسطين الضائعة، وموجات من النوستالجيا إلي أرض الزيتون، ومرابع الطفولة. في الرواية أرواح كتّاب كثيرين عبروا فوق هذه المنطقة في عالم الرواية العربية، وتحديدا قد يشعر القارئ بروح جبرا إبراهيم جبرا في بعض المواضع، أو إبراهيم نصر الله مثلا، أو حتي إميل حبيبي في سخريته اللاذعة من تداول القضية بأسرها.في روايةٍ مشيّدة علي صورة فلسطين المفقودة، سوف يكون بحث الشخصية الرئيسة "عمر" أو البروفيسور "آدم آدم" عن هويته، المتردّدة ما بين العبرانية والعربية، بحثًا عن هوية جمعية للكائن الفلسطيني الممزّق بين "الهنا" و"الهناك". في طرف قصيّ من أطراف الدنيا، يجتمع المشتّتون، في بلد إسكندنافي، لا تستطيع فيه أشجار الزيتون أن تحيا، وإن كان ثمة حياة فلتكن حياةً مغلّفةً بالبلاستيك المقاوم لعوامل التعرية الفتّاكة. هنالك، تتخلّق فكرة إنشاء رابطة إلكترونية تحمل اسم "الشمال"؛ لتبحث عن منفذ يخرجهم من هذه المتاهة.إجمالا، استطاعت الكاتبة أن تقدّم لنا نصًّا روائيًا محكمًا، به الكثير من الفضفضة والبوح الذي من شأنه إبطاء الإيقاع السردي في عدد من المواضع، لكنها فضفضة -أو ثرثرة- ليست سوي تجلٍّ من تجليات أدب المنافي الذي تقع شخصياته تحت وطأة طبقات متراكبة من القمع والصمت الطويل، ولا ملاذ لها سوي فضاء المتخيّل بوصفه منفذًا إلي حرية البوح. "خلسة في كوبنهاجن" رواية بحث عن وطن ضائع، ورحلة بحث مضنٍ عن هويّات مفقودة في عالم ما بعد الاستعمار. الكل في حيرة، والكل في اضطراب وضباب لا يكشف شيئا للرائي.عمر أو البروفيسور آدم متارجح بين أب يهودي يدّعي نسبته إليه وأم وعائلة فلسطينية تزعم أحقّيتها به. وحسام يصارع بين هويته الفردية وهويته الجمعية. وصدّيقة تمارس البغاء مرغمةً في دبي بحثا عن ما تقتات به هي وأولادها، قبل أن تتحول إلي شخصية لها احترامها وهويتها الجديدة في كوبنهاجن. الجميع يبحث عن مستقرّ بعد طول رحلة الشتات، وعذابات السفر، وأنّي لذلك أن يكون إلا في الحب. هكذا تنطق البنية المضمرة للرواية.وعلي الرغم من ذلك، فإن قصص الحب الكامنة في ثنايا الرواية لم تكتمل؛ لأنها محاطة بالخراب النفسي، والدمار العاطفي، الذي ترك آثاره علي الأرواح قبل الأجساد. بالطبع، ثمة بعض الصور السردية المتواترة، التي تمثّلت في "حليب التين" -وهو عنوان رواية الكاتبة السابقة- أو "عسل التين"، أو صورة الزيتونة التي توازي صمود الإنسان الفلسطيني في مواجهة عوامل التغيير والمحو.استطاعت الكاتبة أن تجمع خيوط الرواية التي تناثرت مرويّاتها هنا وهناك؛ لتنتهي علي بنية مفتوحة تؤكّد عددًا كبيرًا من قصص الحب المبتورة التي تفصح عن مواطن الخراب الذي طال أرواح أغلب شخصيات الرواية. الجميع، هنا والآن، يحيا علي اختلاس بعض اللحظات المقتنصة في فضاء مدينة كوبنهاجن القارصة، فضلا عن اختلاس بعض الأحلام التي تستعيد صورة الوطن المفقود.