كما ورد في الجزء الأول من هذا المقال كان لدي المصريين القدماء منظومة متكاملة من مقاييس النيل سواء المحمولة أو الثابتة لقياس حركة النهر ومنسوب مياه النيل وبمعرفة منسوب المياه وقت الفيضان في مختلف الأماكن، فمعرفة طبيعة الفيضان وحجمه تساعد علي التخطيط السليم لشق القنوات وإقامة السدود وفتح المصبات وهو ما كان يتيح جريان أفضل لمياه النهر. كما كانوا يقومون بتحويل مياه النهر من خلال قنوات وتخزينها في المنخفضات الطبيعية بتحويلها إلي بحيرات، هذا بالإضافة أن الضرائب كانت تحسب بحسب ارتفاع منسوب مياه النهر التي تحدد مساحة ما يتم غمره من أراضي. لا يوجد في المراجع ما يشير إلي بناء مقاييس إبان حكم الفرس ولكنها تشير إلي بناء عدد من المقاييس في أماكن متفرقة أثناء حكم البطالمة منها ما أقيم فيما يعرف الآن بأرمنت في صعيد مصر وآخر في جزيرة فيلة مفتاح مصر الجنوبي كما أولي الحكام أثناء الحكم الروماني اهتماماً لما كان مشيداً من مقاييس ولا يوجد ما يشير إلي أنهم قاموا ببناء مقاييس جديدة. كان مقياس النيل المحمول الذي كان يستخدمه المصريون القدماء يحفظ في غير أوقات الفيضان في معبد سيرابيس وفي أثناء حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين أمر بوضع المقياس في كنيسة الإسكندرية بعد أن اعتنق المسيحية 000 وحيث كان المصريون شديدي التمسك بعقائدهم وأن المقياس الذي كانوا قدسوه هو السبب في الفيضان وجالب الخير لأرضهم أثار هذا غضب الشعب وشاعت الفوضي إلي أن أمر الإمبراطور جوليان بإرجاع المقياس لمكانه في المعبد وبقي هناك إلي أن تم هدم المعبد بالكامل في عهد تيوديسيوس الأكبر في أواخر القرن الرابع الميلادي. لا تشير المراجع إلي معلومات تتعلق بمقاييس النيل حتي تم فتح مصر في القرن السابع الميلادي علي يد عمرو بن العاص الذي أعطي أوامره بإنشاء مقياسين جديدين للنيل أحدهما في أسوان والآخر في منطقة دندره. ومنذ ذلك الحين أي من نهايات القرن السابع الميلادي وعلي مدي عصور الخلافة الإسلامية المتعاقبة بدءاً من الخلافة الأموية ثم العباسية ثم الفاطمية وبحسب كتابات المقريزي المؤرخ المعروف والذي عاش في مصر فترة طويلة، اهتم خلفاء المسلمين بقياس حركة النهر وتدقيق ارتفاع وانخفاض منسوب المياه أثناء الفيضان فكان أن أمر الخليفة الأموي سليمان ابن عبد الملك في القرن الهجري الأول بإنشاء مقياس للنيل في حلوان ما لبث أن تهدم ولم يستخدم إلا لفترة قصيرة وأصر الخليفة في ذلك الوقت أن لا يتم إعادة بنائه بل يجب تشييد مقياس جديد في مكان مميز. وقع الاختيار علي الطرف الجنوبي من الجزيرة الواقعة في وسط النيل رافد الفسطاط ورافد الجيزة، وهكذا تم بناء مقياس النيل في جزيرة الروضة الذي أصبح المقياس الرئيسي واستمر في مكانه حتي يومنا هذا. توالت علي مقياس الروضة عدة عمليات من الإصلاح والتطوير وأحياناً إعادة البناء منذ فترة الخلافة الأموية حتي الحملة الفرنسية علي مصر قسمها المؤرخون إلي 6 عصور، ينسب كل عصر إلي الحاكم الذي تم فيه الإصلاح وإعادة البناء. يتكون مقياس الروضة من عمود من الرخام الأبيض متمن الزوايا يبلغ قطره حوالي 20 بوصة ويرتفع في وسط بئر مربعة الشكل. يقسم المقياس رأسياً إلي أذرع وبعض هذه الأذرع مقسم إلي أصابع وهي وحدات القياس في ذلك الوقت فالذراع هو المسافة من الرسغ إلي الكوع والأصابع هي ما يعرف بالقيراط. يعتبر مقياس الروضة من المنشآت الهامة التي جذبت الكثير من المؤرخين وأجريت حوله العديد من الدراسات من أهمها تلك التي قام بها علماء المجمع العلمي المصري إبان الحملة الفرنسية علي مصر ووردت بالتفصيل في موسوعة »وصف مصر». كان المقياس بالنسبة للعلماء مرجعاً تاريخياً هاماً ومسجِّلاً حفظ حركة النهر وهو ما مكنَّهم من سرد التغيرات والأحداث التاريخية ذات الصلة. والآن بعد أن توقف استخدام المقياس بسبب حجب مياه الفيضان بعد بناء السد العالي في خمسينيات القرن الماضي، لايزال مقياس الروضة يمثل أثراً تاريخياً هاماً شاهداً علي حركة النهر وطبيعة فيضاناته وسجِّلا لمنسوب المياه اليومي وقت الفيضان ووقت الانحسار مدونة بالتاريخ الهجري والميلادي علي ما يزيد علي ثلاثة عشر قرناً من الزمان.