«اصبر أن ملنى خليلى والصبر عند البلاء»... حكمة شعبية نقشت على مسرجة كانت تنير بيتا مصريا، وعثر عليها بالفسطاط بمصر العتيقة . فحتى فى مشاعر الحب والصداقة يبقى الصبر مفتاح الفرج. لا عجب فى هذه الحكمة، فمازال لدينا الكثير من حكايات الصبر والحب والبحث عن الأمان بمصر العتيقة، خاصة بكنيسة أبو سرجة أو المغارة التى اختبأت بها العائلة المقدسة من بطش الحاكم الرومانى، وكنيسة القديسة بربارة التى استشهدت فى شبابها ، وأبو سيفين الذى امتلك سيفا منقذا، بالإضافة إلى سيفه العسكرى. أما الفسطاط، فهى منبع كبير للقصص والحكايات، وقد بدأت، وكما قال لى د. حسنى نويصر أستاذ الآثار الاسلامية بجامعة القاهرة، بالجامع العتيق، و يفصله شارع عن دار الإمارة التى أسسها عمرو بن العاص .وفى خلال سنوات قليلة، أصبحت للفسطاط بيوت تعلو عن الطوابق الخمسة و تطل نوافذها على داخل صحن الدار، لحماية خصوصية أهل البيت الذين كان جلوسهم ومعيشتهم بالأسطح العليا، وقد وجد ببعض البيوت نافورات وحمامات خاصة كانت تتمتع بالمياه الجارية.وهذه البيوت كان أساسها من الحجر، حيث إن النيل كان يغمر الأرض بفيضانه، وقد حكى المؤرخ ابن عبد الحكم عن وجود دور للحرف ومصبغة للملابس خاصة بالفسطاط. تفاصيل أخرى كشفتها بعثة المهندسين على بهجت و البير جبرائيل التى بدأت فى التنقيب بمنطقة مصر العتيقة قبل الحرب العالمية الأولى لنتعرف على طرز البيوت الذى تعدى 13 طرازا. ومع هذا عانت الفسطاط الجميلة الكثير, بداية من هجرة العديد من أهلها عند تأسيس القاهرة، ومرورا بالحرائق التى نشبت فيها فى زمن الحروب الصليبية، وانتهاء بارتفاع منسوب المياه فى جبانة الإمام الشافعى التى تضم رفات أوائل الفاتحين لمصر مما أحدث ضررا بالغا، كما أن عدم الاكتراث لقيمتها الحضارية وقربها من منطقة وسط البلد كلها أسباب تقف وراء بناء عدد من البنايات الحديثة فوق بيوتها الأثرية. وهكذا نسى المصريون الفسطاط بخططها أو أحيائها التى حملت أسماء الفاتحين من المسلمين، بالإضافة إلى الجند من غير العرب الذين شاركوا فى فتح مصر، ومنهم كما يقول العالم الكبير د. حسن الباشا جنود الفرس من بقايا جند عامل كسرى على اليمن الذين استقروا فى خطة الفارسيين، وجنود الروم الذين استقروا بخطة الحمراوات، كما ضمت الفسطاط دار الزبير بن العوام ودارى يعقوب و جبر القبطيين اللذين صحبا السيدة مارية القبطية إلى المدينةالمنورة. وأما المفاجأة التى قدمتها الفسطاط، فهى ذلك الامتداد والعمران الذى حققته ليضم رحابها، كما يقول المؤرخ القضاعى، 3600 مسجد، و800 شارع، و170 حماما فى فترة قصيرة. حكايات الحاكم عند جزيرة الروضة فى مصر العتيقة دارت قصة أخرى، فهى جزيرة، لأن النيل، وكما قال الرحالة الإدريسى، إذا زاد أحاط بها من كل ناحية، و هى مركز لصناعة السفن وموقع مهم على النيل، ظل حتى زمن خزان أسوان وتحويل النهر عند بناء السد العالى حاكما للحياة المصرية. وكثير من القصص الشعبية تروى عن النيل الذى لم يفض فطلب أهل مصر إلقاء فتاة ليفى النيل بوعده بالفيضان، فرفض عمرو. يبدو أنها ليست قصة عمرو الوحيدة مع النيل، فكما يروى المقريزى، كتب عمرو إلى الخليفة عمر بن الخطاب رسالة يصف فيها حال أرض مصر التى تروى ريا مريحا كاملا عند وفاء النيل ببلوغه الست عشر ذراعا، وأما النهايتان المخوفتان للظمأ والاستبحار التحاريق و الفيضان- فهما أثنتا عشر ذراعا وثمانية عشر ذراعا. مقياس للوفاء وبعد ذلك بسنوات طويلة، وبأمر من الخليفة المتوكل العباسى، يبنى مقياس الروضة عام 247 هجريا بإشراف المهندس أحمد بن محمد الحاسب على ثلاثة مستويات يتوسطها عمود رخامى مدون عليه علامات القياس، ويبدأ البناء فى زمن التحاريق بسرعة، حيث كان على أهل مصر الانتهاء منه قبل الفيضان. وهذا المقياس هو مقياس للحياة كلها فى بر مصر، فعندما يصل الماء إلى أقل من 12 ذراعا والكلمة للدكتور حسنى نويصر، كان الفلاحون يعفون من الضرائب، وحين يصل إلى 16 ذراعا تحقق الأرض أفضل محصول، وإذا زادت المياه عن 16 ذراعا يعفى الفلاحون وتعلن الطوارئ فى بر مصر. وقد استمر قياس قوة وعنفوان الأرض المصرية بصلاح حال حاكمها وحال نيلها، ولهذا كانت أكبر الاحتفالات المصرية عند وفاء النيل و خروج الخليفة من قصره ليتجه إلى مقياس الروضة ويطمئن على حال البلاد والعباد بعدها جاء الأيوبيون ليختلفوا عن الفاطميين فى كل شئ خاص بأسلوب الحكم ، إلا أنهم اتفقوا على شىء واحد، وهو أهمية المقياس. وفى العصر المملوكى، أضاف الظاهر بيبرس قبة على البئر، وأتم على بك الكبير إصلاحات السلطان العثماني، وفى زمن الحملة الفرنسية كتب علماء الحملة عن هذا المقياس، وأشار الجبرتى إلى بناء القاعة التى بها العمود. وتوالت الإصلاحات إلا أن أكبر مأساة شهدتها الجزيرة كانت فى انفجارمخزن للبارود مجاور للمقياس فى منتصف القرن التاسع عشر. مبرة محمد على لا يمكن اعتبار المقياس نهاية القصة، فالتعاون والبر كانا وراء إنشاء مبرة تحمل اسم محمد على فى مصر العتيقة . وكثيرة هى الأسماء التى قدمت ومنهن سيدات مجتمع مثل هدى شعرواى رمز النهضة النسائية و الأميرة عين الحياة، المصرية الوطنية ابنة أحمد رفعت باشا الذى توفى فى حادث غامض. وأخيرا للجغرافيا كلمتها، فإذا كنا بدأنا الحكى بحكمة الصبر ، فإن حكمة أخرى كتبها شباب الانترنت، فلكى يتصل الطريق بين أهل السيدة زينب وأهل مارجرجس لابد من وجود الملك الصالح، . فلابد دائما من حاكم صالح لكى يتصل الطريق بين أهل مصر.