«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنون الكنوز
نشر في الأهرام المسائي يوم 01 - 08 - 2010

تسمو الدول وتتطور بالعلم والمعلومات الصحيحة‏,‏ ولما رأيت أن جهل معظم المصريين بتاريخهم سوف يؤدي الي مفاهيم خاطئة‏,‏ قد تتفاقم وتتحول إلي سلوك متطرف يعوق التقدم‏,‏ تفرغت أكثر من أربع سنوات لانجاز هذا الكتاب‏
لأن بعض المتصدين للكتابة إلي الناس أو المتحدثين اليهم ينطقون عن جهل أو سوء نية‏,‏ ويخلطون بين العقائد الخالدة وبين الأشخاص الفانين‏,‏ وهدفهم تأخر هذا الشعب العريق‏,‏ ففي تأخره رواج لبضاعتهم الفاسدة‏!‏
والتاريخ ذاكرة الأمة‏.‏ وكانت لمصر امبراطورية فرعونية قوية ثرية‏,‏ ضعفت بفساد الحكام‏,‏ وركونهم الي حياة الدعة والترف‏,‏ حتي تكون الجيش المصري من المرتزقة الأجانب‏,‏ الذين سيطروا علي البلاد بحكم السلاح‏,‏ فتمزقت البلاد إلي دويلات‏,‏ وكشف الأعداء سرها‏,‏ أي عرفوا الطريق الي احتلالها‏,‏ ووقعت مصر تحت استعمار طويل متعاقب لدول أقل منها حضارة‏,‏ من الفرس واليونان والرومان والعرب والفاطميين والأكراد الأيوبيين‏,‏ ثم المماليك فالأتراك العثمانيين وأخيرا الانجليز‏!‏
ومع استمرار المذلة والقمع‏,‏ فقد المصريون احساسهم بالعزة القومية والاستقلالية‏.‏ قاوموا بعض الأحيان بإيجابية‏,‏ ومعظم الأحايين بسلبية‏,‏ من منطق أنهم باقون في بلادهم‏,‏ أما الطغاة فإلي زوال‏!‏
هذا الكتاب بجزئية خلاصة آلاف الصفحات‏,‏ جميعها من المراجع الأمهات‏,‏ وحصيلة عشرات من الدراسات الحديثة الممتازة لبعض دراسينا الذين رجعوا إلي مصادر ومخطوطات ليست تحت يدي‏.‏ وقد انشأت هذا الكتاب من مقتطفات متتابعة من هذه المراجع النفيسة‏,‏ ولم انتقل منها إلي كتابات المعاصرين إلا لإيضاح ما خفي فهمه علي مؤرخي العصور الوسطي ولم أتدخل أنا إلا في القليل لربط أحداث أو إزالة غموض‏.‏
وجميع معلومات هذا الكتاب مسندة إلي مصادرها الأصلية المذكورة في نهاية كل جزء‏.‏ وقاريء مؤرخي العصور الوسطي يعاني من المغالاة والتعميم‏,‏كأن يقول أحدهم مثلا‏:‏ ثم حاربهم وقضي عليهم جميعا‏,‏ ويكون قصده أن قتل الكثيرين منهم‏!..‏ ويعاني أيضا من اللغة المكتوبة بمفردات فصيحة وتركيبات عامية‏,‏ وقد تركت بعضها للحفاظ علي مذاق روح العصر‏.‏
وبسبب كثرة الألفاظ البائدة والأعجمية‏,‏ وغرابة الأسماء‏,‏ مثل‏:‏ طرنطاي‏,‏ يلبغا‏,‏ أشلون خوند‏,‏ أقجماس‏,‏ صرغتمش‏,‏ طشتمر‏,‏ وهو عينات سهلة‏,‏ اقتصدت في ذكر الشخصيات الهامشية بما لا يخل بالحقيقة التاريخية‏.‏
كما يكابد قاريء هؤلاء المؤرخين العظماء من جنوحهم الي صياغة التاريخ بأسلوب اليوميات‏.‏ فكان المؤرخ يبدأ الحادثة التاريخية المهمة‏,‏ ثم يترك إلي أحداث أخري منها ما هو خطير ومنها ما هو تافه‏,‏ ثم يعود إلي إكمال الحادثة التي بدأ بها‏,‏ بعد عشرات الصفحات أو في المجلد التالي‏!‏
ومن أمثلة المراجع الأساسية‏:‏ كتاب السلوك للمقريزي وهو أربعة أجزاء في اثني عشر مجلدا ضخما‏,‏ وخطط المقريزي في جزءين كبيرين‏,‏ والنجوم الزاهرة لإبن تغري بردي ومكون من ستة عشر جزءا تضمها عشرة مجلدات ضخمة‏,‏ وبدائع الزهور لإبن إياس وهو خمسة أجزاء في ستة مجلدات‏,‏ إلي جانب تاريخ الجبرتي ومراجع أخري عديدة‏.‏
ولا يقل أهمية عنهم العلماء الذين أفنوا حياتهم في تحقيق هذه المراجع وكتابة الهوامش الموضحة للأسماء والمهن والأزياء المنقرضة‏,‏ حتي أن الهوامش تشغل نصف المساحة تقريبا‏,‏ من هؤلاء الأساتذة الدكاترة‏:‏ محمد مصطفي زيادة‏,‏ محمد مصطفي‏,‏ سعيد عبدالفتاح عاشور‏,‏ سيدة اسماعيل كاشف‏,‏ حسن حبشي‏,‏ فهيم محمد شلتوت‏,‏ ابراهيم علي طرخان‏,‏ سعاد ماهر‏,‏ جمال الدين الشيال‏,‏ مصطفي السقا‏,‏ حسن ابراهيم حسن‏,‏ محمد كمال‏,‏ السيد محمد‏,‏ أحمد أمين‏,‏ علي مبارك‏,‏ فيليب حتي‏,‏ عبداللطيف حمزة‏,‏ حكيم أمين عبدالسيد‏,‏ محمد قنديل البقلي‏,‏ السيد محمد العزاوي وآخرون‏.‏ إلي هؤلاء الأفاضل وكثيرين أدين بالفضل‏.‏
والتاريخ في هذا الكتاب للسلاطين والملوك‏,‏ وقبل ذلك لحياة الناس وآثارهم المعمارية والأدبية والفنية وأزيائهم‏,‏ وارتباطهم بالمنطقة المحيطة‏,‏ ثم علاقتهم بأوربا بعد أن تخلصت من المتاجرين بالدين‏,‏ وجعلت المسيحية للحياة الروحية‏,‏ وشئون الحياة العملية لأهل العلم والإدارة‏,‏ فقفز الغرب من الانحطاط والتخلف إلي ما هو عليه الآن من سيادة علي العالم‏.‏ فسادة الدنيا دائما هم سادة العلوم والابتكارات‏.‏ والمبدع لا يبتكر إلا في مناخ من الحرية الكاملة واحترام الرأي الآخر ويقدس المبادرة الفردية واحترام الملكات الشخصية‏.‏ عمرو بن العاص هو الذي بني الفسطاط‏,‏ أول حاضرة إسلامية في مصر‏,‏ وقبل ذلك ومن قبل الميلاد كان البطالمة قد اتخذوا الاسكندرية عاصمة لهم لأنهم أهل بحر‏,‏ فلما حكم الرومان من بعدهم اتخذ نوابهم العاصمة نفسها‏,‏ وكان عمرو يريد ذلك أيضا لولا أن الخليفة عمر بن الخطاب أبي عليه ذلك‏,‏ كي لا يكون بين وبين مقر الخلافة في المدينة بحر ومسافة بعيده‏,‏ ومن هنا نشأت الفسطاط‏,‏ وراجت حول نشأتها حكاية طريفة تقول إن عمرو كان مخيما هو وعسكره تحت حصن بابليون‏,‏ وعندما عزم علي الرحيل الي الاسكندرية لفتحها وجد يمامة قد أفرخ بيضها في فسطاطه أي خيمته‏,‏ فقال‏:‏ لقد تحرمت بجوارنا‏,‏ أقروا الفسطاط حتي تطير فراخها‏.‏ أي دعوا الخيمة مكانها حتي تتعلم فراخها الطيران‏.‏
وعندما عاد من الاسكندرية أمر عسكره أن يعسكروا حول فسطاطه‏,‏ وانضمت القبائل بعضها إلي بعض‏,‏ وتنافسوا علي المواقع‏,‏ فولي عمرو أربعة من قواده أنزلوهم وفصلوا بينهم في الخلاء الممتد بين بابليون وتلال المقطم‏.‏
يقول المستشرق لينبول‏:‏ كانت الفسطاط أولا أشبه بمعسكر وقتي أكثر منها بمدينة‏,‏ ذلك أنهم احتاجوا الي مسافة واسعة كي يفصلوا بين القبائل المختلفة التي تكون منها جيش الاحتلال‏,‏ والتي كانت برغم الإخاء الذي نادي به الدين الجديد عرضة لأحقادهم القديمة‏,‏ وعرفت تلك البقعة بالحمراوات الثلاث‏,‏ الحمراء القريبة والوسطي والقصوي‏,‏ ومن الواضح إن هذه التسمية ترجع الي اللواء الأحمر الذي أقيم في الوسط‏.‏ وقد قسمت القبائل هذه الحمراوات فيما بينها‏,‏ مبتدئة من بابليون الي حيث جامع ابن طولون حاليا‏.‏
وقيل إن كلمة فسطاط مشتقة من اللفظ اليوناني فساطن‏,‏ المشتق من اللفظ اللاتيني فساتم‏,‏ الذي كان يطلقه الرومان علي معسكراتهم الحربية‏.‏ لكن الكلمة موجودة في المعاجم العربية وتعني البيت من الوبر أو الشعر أي الخيمة‏.‏
كما اختطت قبيلة حمدان ومن والاها الجيزة‏,‏ لكل بطن منهم‏(‏ أي عصبية أو فرع‏)‏ خطة‏,‏ وبين كل خطة والتي تليها فضاء‏.‏
وقد بقي في الاسكندرية الزبير بن العوام ومن معه‏,‏ ولم تكن بها خطط مثل الفسطاط‏,‏ وإنما كانت أخائذ‏,‏ من أعجبه منزل أخذه ونزل فيه هو وبنو أبيه‏.‏
فلما زاد عدد المستوطنين العرب في زمن عثمان بن عفان ثم معاوية ومن تلاه‏,‏ كثر عدد النازحين ووسع كل قوم لبني أبيهم‏,‏ فكثر البنيان والتأمت الخطط‏.‏
تاج الجوامع
عن تاريخ أول مسجد أقيم علي أرض مصر يقول لينبول أن عمرو بن العاص اختط في مركز الفسطاط داره‏,‏ وبني بجواره مسجدا هو جامع الفتح‏,‏ أو تاج الجوامع كما أطلق عليه العرب‏..‏ ثم سرعان ما أطلق عليه اسم الجامع العتيق‏(‏ الآن جامع عمرو بن العاص‏).‏ ولم يكن سوي غرفة مسطحة طولها‏200‏ قدم وعرضها‏56‏ قدما‏.‏ وكان سقفه منخفضا جدا تتخلله بعض الثقوب لدخول الضوء‏.‏ ولم تكن له مئذنة أو زينة أو أفاريز‏,‏ وحتي المنبر الذي اتخذه عمرو قد أزيل حين كتب اليه الخليفة عمر بن الخطاب يوبخه قائلا‏:‏ أما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون عند عقبيك‏!..‏
بعد خمس وعشرين سنة أعيد بناء هذا الجامع من جديد مع بعض التوسعات‏,‏ والموجود الآن بني سنة‏727‏ م‏,‏ وكان يجلس فيه القاضي ليحكم بين المتنازعين‏,‏ وكان يجتمع فيه العلماء‏,‏ كما كان يجتمع فيه السنيون وقت انقسام المسلمين علي أنفسهم‏,‏ ثم احترقت مدينة الفسطاط كلها عمدا‏,‏ فحلت بالجامع أيام سوء‏,‏ حتي وجده الرحالة المغربي ابن سعيد في القرن الثالث عشر الميلادي وقد غطاه العنكبوت‏,‏ وجدرانه علاها عبث المتعطلين وقد نثروا علي أرضه مخلفات الأطعمة‏,‏ في ذلك الوقت كان العابثون أكثر من الأتقياء‏.‏ وقال الجبرتي الذي عاش في القرن التاسع عشر الميلادي إنه كان هناك كثير من الموسيقيين ومدربي القردة والمشعوذين والراقصات والحواة‏,‏ ممن كانوا يترددون علي صحن الجامع‏(‏ المهجور‏)‏ وقد تداعت أبنيته‏.‏
ثم جاء المملوك مراد بك الذي كان قلقا علي حياته‏,‏ وأرضي ضميره بإنفاق بعض المال الذي حصل عليه بطرق متعسفة علي إعادة بناء هذا الجامع‏,‏ حتي أصبح في مستهل القرن التاسع عشر الميلادي المكان المفضل لصلاة الجمعة اليتيمة في رمضان‏,‏ واذا تأخر الفيضان وخشي الناس هبوط ماء النيل وما يعقبه من قحط صدرت الأوامر للمشايخ والأئمة بإقامة صلاة الاستسقاء من أجل زيادة ماء النيل في هذا الجامع‏,‏ وكذلك قساوسة الكنائس واليهود لنفس الغرض‏.‏
وقد ظل جامع عمرو بن العاص المسجد الجامع الوحيد في عصر الولاة‏,‏ أي زمن الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية‏,‏ ويمتاز المسجد الجامع بأنه مكان للصلاة ومدرسة دينية ومركز للقضاء‏.‏ وظل هكذا إلي أن بني والي الخليفة المهدي علي مصر جامع العسكر سنة‏169‏ ه في مدينة العسكر التي اختطها العباسيون في سنة‏133‏ ه‏.‏ وبعد عصر الولاة كثر بناء الجوامع‏.‏
كما سمح الوالي مسلمة بن مخلد‏(53‏ 63‏ ه‏)‏ للأقباط بأن يبنوا كنيسة لهم في الفسطاط بجوار الجسر الذي يربط بينها وبين جزيرة الروضة‏.‏
عاصمة دائما
عن موقع المدينة وتاريخه يقول لينبول‏:‏ كانت الفسطاط تطل علي النيل الذي كان مجراه وقتها في موقع مصر القديمة‏,‏ والأثر الباقي منها ليس عربيا‏,‏ ذلك هو حصن بابليون الذي أطل وقتها علي خيام المسلمين وأشرف علي حاضرتهم وهي تنمو‏.‏ ومن المؤكد أنه قريبا من الفسطاط كانت توجد مدينة تسمي‏:‏ مدينة مصر‏,‏ اختفت في أعقاب الفتح‏,‏ إما لأن أهلها التحقوا بالعاصمة الجديدة حيث الرزق الطارئ‏,‏ وإما لأنهم هجروا مواقعهم في شهور القتال بين الرومان والفاتحين العرب‏,‏ فأثروا السلامة وابتعدوا‏..‏ والمؤكد أن هذه المنطقة التي فيها قاهرة اليوم كانت دائما تحتضن في بعض بقاعها مدينة ما‏,‏ ومنذ أيام الفراعنة‏.‏
والمدينة التي اختفت أو ذابت في الفسطاط في سنوات الفتح الأولي‏,‏ كانت تحتمي بحصن بابليون أو‏:‏ باب لي أون‏,‏ أو باب أون‏,‏ والسر في هذه التسمية أن مدينة أون تبعد أميالا قليلة حيت تقوم شامخة مسلة عين شمس‏,‏ وهي كل ما تبقي من مدينة أون أو هليوبوليس‏,‏ أو مدينة الشمس‏,‏ الآن هي في منبسط المطرية حيث حارب العرب إحدي معاركهم قبل احتلال الحصن‏,‏ وحيث حارب الأتراك أمام هذه المسلة موقعة انتهت باستيلائهم علي القاهرة‏,‏ مستهلين ابشع أنواع الاحتلال وأحطها سنة‏1517‏ م‏,‏ وحيث انتصر كليبر علي الأتراك ووحدهم سنة‏1800‏ م‏.‏
في هذا المكان التاريخي كان معبد أون الذي عمل فيه حما يوسف الصديق كاهنا‏,‏ وحيث كانت هليوبوليس جامعة أقدم حضارات العالم‏.‏ أجمع‏,‏ والتي تلقي فيها موسي حكمة المصريين علي أيدي كهنة الإله رع‏,‏ والتي انتسب إليها هيرودوت الإغريقي‏,‏ وتلقي افلاطون تعاليمه‏,‏ ودرس الرياضي يودوكس الفلك‏,‏ وعاش مشاهير اليونان للتعلم‏,‏ كانت في هذه المدينة أول جامعة وأول مركز علمي عالمي‏,‏ لم يبق منها سوي المسلة‏..‏ وعن قربها شجرة جميز عجوز استراحت تحتها العائلة المقدسة‏,‏ مريم العذراء والمسيح ويوسف‏,‏ حيث هربوا الي مصر‏,‏ فسميت شجرة مريم العذراء‏..‏ وعلي مقربة منها نبع عذب قيل أنه أصبح عذبا لأن الطفل يسوع استحم فيه‏..‏
اندثرت هليوبوليس وبقي حصنها باب أون الذي يرجع تاريخه الي القرن الثالث الميلادي‏.‏ وكانت في سفحه مدينة مصر تحتمي به‏,‏ وبداخله مدينة عسكرية ضخمة بها ست كنائس فخمة‏..‏ وكان القبط يجتمعون في هدوء في حصن بابليون‏.‏
محمد كمال السيد محمد في كتابه الموسوعي أسماء ومسميات من مصر القاهرة‏,‏ يؤكد أيضا أن موقع القاهرة موقع مختار منذ عهد الفراعنة‏,‏ وكانت منف تقابل حلوان‏..‏ قاعدة تتحكم في الوجهين البحري والقبلي‏.‏ ثم اتخذ الرومان حصن بابليون‏..‏ وهو ذات موقع مدينة الفسطاط‏.‏
وفي خطط المقريزي‏:‏ وأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس‏,‏ وبها بناية تعرف بالقصر‏(‏ حصن بابليون أو قصر الشمع حوله مساكن‏..‏ قال عنه ابن المتوج‏:‏ وفيه أزقة ودروب والكنيسة المعلقة‏.‏
وكان للرومان بقصر الشمع مقياس حيث كان يطل مباشرة علي الميل عندئذ‏,‏ الآن يبعد‏450‏ مترا‏.‏ كذلك لما بني جامع عمرو كان يطل علي النيل‏,‏ الآن يبعد‏450‏ مترا تقريبا‏.‏ وقصر الشمع هذا من بقاياه الآن الكنيسة المعلقة بمصر القديمة‏.‏ وبشكل عام كان النيل وقتها يجري غربي موقع مسجد السيدة زينب بحوالي‏300‏ متر‏,‏ الآن يبعد كيلو مترا‏,‏ وكان يجري في المواقع الحالية لشارع حسن الأنور ثم مصطفي كامل ثم محمد فريد حتي ميدان رمسيس ثم يتجه الي الترعة البولاقية حيث يلتقي بمجراه الحالي عند فم ترعة الاسماعيلية شمال شبرا‏..‏
وقد تم هذا التحول علي تسع دفعات طبقا لرأي العالم محمد رمزي‏,‏ مابين عامي‏688‏ و‏1830‏ ميلادية‏.‏ ونتج عن ذلك تباعا طرح نهر تكونت منه أحياء المنيرة والقصر العيني وجاردن سيتي والتحرير وباب اللوق ومعظم بولاق‏,‏ ونتج عن التحول الرابع عام‏1174‏ جزيرة النيل مكانها الآن ميدان رمسيس وشبرا وجزيرة بدران والسبتية‏,‏ وبعد‏120‏ سنة اتصلت هذه الأماكن بالأرض شرقيها‏.‏
حرق المكتبة
أما عن مكتبة الاسكندرية الشهيرة وإن كان عمرو بن العاص قد أمر بإحراقها بتعليمات من عمر بن الخطاب‏,‏ فالواقع أن الاسكندرية الي حين فتح العرب لها كانت أهم مركز في الشرق تشع منه الثقافة اليونانية والرومانية‏,‏ وكانت بها مكتبة‏..‏
وقد ذكروا أن مكتبة الاسكندرية الشهيرة أسست في عهد الاسكندر المقدوني‏,‏ وأنه جعل فيها ترجمة جميع ما وجده من مخطوطات في بلاد البابليين والأشوريين والفرس‏.‏ قال ابن نديم في فهرسته ص‏329‏ إن الاسكندر لما فتح عاصمة فارس اصطخر‏(‏ ترجم‏)‏ نسخا من جميع مافي خزائنها من كتب الي اللسانين اليوناني والقبطي‏,‏ وبعث بها وسائر ماأصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء الي مصر‏.‏ قالوا ومازالت هذه المكتبة تزداد حتي بلغت كتبها سبعمائة ألف مجلد‏.‏ وفي عام‏47‏ ق‏.‏ م‏.‏ حوصر يوليوس قيصر بالاسكندرية فأحرقت جنوده من غير قصد بعض هذه المكتبة‏.‏ ولما تولي الامبراطور تودوسيوس وكان مسيحيا دفعه تعصبه الي القضاء علي جميع المعاهد الوثنية‏,‏ فنال المكتبة علي يده ضرر كبير‏.‏ وفي عهد الامبراطور تيودوس منع الاشتغال بالآداب والفلسفة اليونانية‏,‏ وبأمره احترقت المكتبة سنة‏39‏ م‏.‏
هذا ماذكره محمود مصطفي في كتابه عن الأدب العربي في مصر ثم يذكر أن‏:‏
أول كتاب عربي ظهرت فيه هذه التهمة هو كتاب الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف البغدادي‏,‏ الذي زار مصر في أواخر القرن السادس الهجري ووصف مشاهدها‏..‏ وخلال حديثه عن الاسكندرية قال مايأتي ملخصا‏:‏ عاش يحيي‏(‏ يوحنا‏)‏ النحوي الي أن فتح عمرو بن العاص مصر والاسكندرية‏,‏ وكان عالما يكتب بلغته القبطية‏,‏ فلما عرف عمرو موضعه من العلم قربه منه وأكرمه‏,‏ وفتن به وشاهد من حججه المنطقية ما لم يكن للعرب به أنسة‏.‏ ثم حدثه يوما عن مكتبة الاسكندرية‏,‏ فقال يحيي النحوي لعمرو‏:‏ إن ما لا نفع لكم به نحن أولي به‏,‏ سأله عمرو عما يحتاجه‏.‏ فقال كتب الحكمة‏.‏ ثم انتهي الأمر بعمرو الي أن استشار عمر بن الخطاب في أمرها فكتب إليه‏:‏ إن كان فيها مايوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غني‏,‏ وإن كان فيها مايخالف كتاب الله فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامها‏..‏
أيضا ذكر حادثة الحرق هذه أبو الفرج بن العبري في كتابه مختصر الدول‏,‏ وعن هذين الكتابين العربيين نقل الأوروبيون‏,‏ وظل هذا شائعا حتي جاء القرن الثامن عشر وأعلن المؤرخ الانجليزي جيبون شكه في الأمر‏,‏ في كتابه‏:‏ اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها الجزء الثالث الفصل الحادي والخمسون‏.‏ قال‏:‏
كان عمرو أكثر حبا للاستطلاع وأكثر تحررا من بقية أصحابه‏,‏ وكان يحلو له في أوقات فراغه أن يتحدث الي يوحنا‏(‏ يحيي النحو‏)‏ في النحو والفلسفة‏..‏ وقد تشجع يوحنا وطلب المكتبة الملكية‏,‏ وكانت الشيء الوحيد من أسلاب الاسكندرية التي لم تمسسه يد الفاتح ولم تقسم بين الفاتحين‏,‏ ولكن نزاهة عمرو جعلته يستأذن عمر بن الخطاب‏(‏ فأجاب بما سبق‏)‏ ونفذ عمرو الحكم في طاعة عمياء‏,‏ فوزعت هذه المكتبة ومجلداتها المكتوبة علي الورق أو الرق علي حمامات المدينة‏(‏ لتسخين المياه‏)‏ وكان عددها أربعة آلاف حمام‏,‏ وقد بلغت هذه المؤلفات من الكثرة حدا لا يصدق‏,‏ بحيث أن ستة أشهر لم تكن كافية إلا بصعوبة لاستهلاك هذا الوقود الثمين‏.‏
ثم يعلق جيبون‏:‏ لكني أميل بشدة وهذ رأيي الخاص الي إنكار هذه الواقعة‏..‏ ودليله أن كاتبين مصريين عاشا قرب فتح الاسكندرية لم يذكرا هذه الحكاية‏..‏ ثم يتحدث بشكل عام أنه بسبب الجهل وكوارث الحروب وتعاقب الأجيال يكون من العجيب عدم فقد المكتبات والكتب وقد حرمنا الكثير من مؤلفات الاغريق الشعرية والمسرحية في اليونان‏.‏
أما د‏.‏ سيدة اسماعيل كاشف فتقول ان المكتبة أحرقت في زمن يوليوس قيصر سنة‏48‏ ق‏.‏ م‏.‏ ثم حرقت بعد ذلك بنحو أربعمائة سنة حين اشتد النزاع بين الوثنية والمسيحية‏..‏ وحتي لو كانت المكتبة موجودة عند الفتح فقد كان بوسع البيزنيطيين أخذ كنوزها معهم الي القسطنطينية‏.‏
لكن الثابت أن العرب دمروا كثيرا من المعابد الأثرية بغية الفوز بما فيها من معادن نفيسة
الذي بني مصر
عن تاريخ الفراعنة‏,‏ نقل مؤرخو العصور الوسطي حكايات مثل حواديت ألف ليلة وليلة‏..‏ إذ قال محمد المسعودي إن أول من ملك مصر قبل الطوفان هو تبليل الألسن وهو من أولاد قابيل بن آدم عليه السلام‏..‏ وتولي بعده إبنه نقراؤس الجبار وهو الذي بني مدينة أمسوس أول مدينة بأرض مصر‏..‏
وقال العلامة ابراهيم بن وصيف شاه في أخبار مدينة أمسوس‏:‏ كان بها طائر من نحاس علي اسطوانة من رخام أخضر‏,‏ يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرتين‏,‏ وعند غروبها مرتين‏,‏ فيستولون بتصفيره علي مايكون من حوادث في ذلك اليوم فيتهيأون لها‏..‏
ثم تولي بعده مصريم‏,‏ وهو الذي بني مدينة مصر‏..‏ وتولي بعده أخوه عيقام‏,‏ وإليه تعزي كتب القبط التي فيها تواريخهم‏(‏ أي تاريخ الفراعنة‏)‏ ومايحدث في الدنيا إلي آخر الزمان‏..‏ واستمر عيقام هذا حتي تغايرت عليه نساؤه فعمدت احداهن الي وضع السم في طعامه‏,‏ فمات من وقته‏,‏ فكان كما قيل في المعني‏:‏
كن مااستطعت عن النساء بمعزل‏...‏ إن النساء حبائل الشيطان‏.‏
وبعد فترة حكم سورنيد‏,‏ وقيل سورند‏(‏ لاحظ الدقة‏!)..‏ وهو الذي بني الهرمين العظيمين‏,‏ قبل الطوفان بثلاثمائة سنة‏,‏ وأودع فيهما أمواله وتحفه وكتبه النفيسة‏.‏
وذكروا ملكا عجيبا اسمه خرنثاه كان يجلس في السحاب‏,‏ ويقيم به ستة أشهر‏,‏ ثم ظهر بعد طلوع الشمس وهي في برج الحمل‏!..‏
أما فرعون موسي فاسمه الوليد بن مصعب‏..‏ أصله من نواحي الشام‏..‏ كان عطارا فتجمد عليه دين‏,‏ فخرج هاربا من أصحاب الديون حتي دخل مدينة منف‏,‏ وكان بشع المنظر‏,‏ أعور بعينه اليسري‏,‏ طول لحيته سبعة أشبار‏..‏ قصير القامة يعرج عرجا فاحشا‏....‏ وقد تمكن هذا الشامي بحيلة من حكم مصر بعد موت ملكها‏,‏ وجمع الخراج ثلثمائة وسبعين مليونا من الدنانير الفرعونية‏,‏ وقيل أن الدينار الفرعوني ثلاثمائة أمثال الدينار العربي‏..‏ وعاش هذا الفرعون أربعمائة سنة دون أن يمرض‏,‏ وعندئذ ادعي الربوبية‏,‏ فأرسل الله اليه موسي‏..‏ وغرق في بحر القلزم‏(‏ الأحمر‏)..‏
قال القفاعي‏:‏ لما غرق فرعون وقومه‏,‏ صارت مصر ليس بها أحد من أشراف أهلها‏..‏ فحكمت امرأة يقال لها دلوكة‏..‏
هكذا كان تخيلهم عن الفراعنة‏,‏ وأغلب الظن أنهم استقوا هذه الخرافات من عجائز القبط‏,‏ وكان المسيحيون الأوائل قد دمروا أو شوهوا آثارا عديدة‏,‏ علي أساس وثنية عقائد الفراعنة‏,‏ أو من أجل نفائسها‏.‏
صائم الدهر
بمجرد فتح مصر انهمك العرب ينقبون في هوس بحثا عن كنوز الفراعين الخبيئة ويقول محمد عبدالله عنان في كتابه مصر الاسلامية
كانت مصر وقت الفتح الاسلامي غنية بتراثها الأثري القديم‏,‏ رغم ما أصابه من عبث الفاتحين وكانت منارة الإسكندرية ومعابد الفراعنة وتماثيلهم في مصر القديمة وفي عين شمس وغيرها من الآثار الخالدة لاتزال قائمة‏,‏ وكانت الأهرام الكبيرة مغطاة بقشرتها الملونة الحافلة بالنقوش والصور التي ربما كانت تنبيء عن سرها‏.‏ ونعرف فوق ذلك أن الآثار المصرية القديمة‏,‏ سواء فرعونية أو يونانية أو رومانية كانت أيام الفتح الاسلامي أضعاف ما كانت عليه يوم شهدها العلامة عبداللطيف البغدادي
وعبداللطيف البغدادي زار مصر في نهاية القرن السادس الهجري‏(‏ خاتمة القرن الثاني عشر الميلادي‏)‏ وترك لنا وصفا بما رآه ينم عن عقلية علمية‏,‏ ذلك أنه كان قد درس الطب والفلسفة والمنطق والبيان‏,‏ وكتب مؤلفات وصلنا منها الإفادة والاعتبار في الأمور الشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر وهو ملخص لكتاب كبير مفقود‏,‏ وهو يتفوق علي الآخرين جميعا بدقة البحث والوصف والتعليل‏..‏
يقول البغدادي عن الأهرام الكبيرة انك اذا تأملتها وجدت‏:‏ الملكات الهندسية قد أخرجتها الي الفعل وهي في غاية إمكانها‏,‏ حتي إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بحالهم وتنطق عن علومهم‏..‏ ويصف نقوشها الهيروغليفية بقوله وعلي تلك الحجارة كتابة بالقلم القديم المجهول الذي لم أجد بديار مصر من يزعم أنه يعرفه‏.‏ وهذه الكتابات كثيرة جدا‏,‏ حتي إنه لو نقل ما علي الهرمين فقط الي صحف لكانت زهاء عشرة آلاف صفحة‏.‏
كما يصف تمثال أبي الهول‏:‏ عليه مسحة بهاء وجمال كأنه يضحك تبسما‏..‏ وأعجبني تناسب وجهه‏.‏
هذا الجمال الذي انبهر به عبداللطيف البغدادي في القرن الثامن عشر الميلادي‏,‏ لم يسلم من محاولة هدمه بيد متعصب عاصر المؤرخ المقريزي الذي حكي عنه‏:‏ وفي زماننا كان شخص يعرف بالشيخ صائم الدهر من جملة الصوفية‏..‏ قام في سنة‏780‏ ه لتغيير أشياء من المنكرات‏,‏ وسار الي الأهرام وشوه وجه أبي الهول وشعثه‏,‏ فهو علي ذلك الي اليوم‏.‏
كان بعض أبوالهول مدفونا تحت الرمال ويتعجب القضاعي من براعة النحاتين الذين نحتوه قائلا‏:‏ والعجيب من مصوره‏(‏ أي ناحته‏)‏ كيف قرر أن يحفظ التناسب للأعضاء مع عظمها‏,‏ مع أنه ليس في الطبيعة مايحاكيه‏.‏
خوفو والمأمون
عندما جاء المأمون الي مصر طمع في كنوز الهرم الأكبر ونفائس خوفو‏..‏
وكان قد جاء بجيشه التركي لإخماد ثورة عارمة قام بها القبط والعرب بمصر جميعهم ضد ولاته المنحرفين‏,‏ فطغي وتجبر وقتل الكثيرين وسبي النساء وباع الأطفال‏,‏ ثم جمع بكل قسوة مئات الملايين عن الدنانير لم يكتف بها وطمع في كنوز صاحب الهرم الأكبر‏,‏ وكان بمنطقة الأهرام وقته حوالي سبعة عشرة هرما أو ثمانية عشر‏,‏ فأمر بفتح الأكبر‏:‏
واتفق لسعادته أن وقع النقب علي مكان يسلك منه الي الغرض المطلوب‏,‏ وهو زلاقة‏(‏ منحدر‏)‏ من الحجر الصوان الذي لايعمل فيه الحديد‏,‏ قد نقر فيها حفر يتمسك السالك بها لئلا ينزلق‏(‏ وهذا هو مدخل الهرم الموجود الآن‏)..‏ وانتهت بهم الزلاقة الي موضع مربع في وسطه حوض من حجر مغطي‏,‏ فلما كشف غطاؤه لم يجد فيه إلا رمه بالية‏(‏ مومياء‏).‏ فأمر المأمون بالكف عما سواه‏(16)‏
وقد عثر علي جام أي وعاء أو كأس من زمرد وجد به بعض النفائس كان ثمنها يعادل بالضبط ما أنفقه المأمون في التنقيب‏..‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي رد علينا ما أنفقناه‏!!‏
وهذا ما أورده المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي‏..‏ ويورد المقريزي تفاصيل أكثر نقلا عن كاتب سابق له دخل الهرم وقد دخلت في داخله فرأيت فيه مربعة الأسفل وفي وسطها بئر‏,‏ ينزل الانسان فيها فيجد في كل وجه من تربيع البئر باب يفضي الي دار كبيرة‏(‏ غرف الدفن‏).‏ فيها موتي
من بني آدم عليهم أكفان كثيرة‏(‏ المومياوات‏)‏ وأجسامهم مثلنا‏,‏ ليسوا طوالا‏,‏ ولم يسقط من أجسامهم ولا من شعورهم شيء‏,‏ وليس فيهم شيخ ولا من شعره أبيض‏..‏ ويقال إنه في زمن المأمون وجدوا صورة آدمي من حجر أخضر فأخرجت الي المأمون‏,‏ فإذا هي مطبقة‏,‏ فلما فتحت وجد فيها جسد آدمي عليه درع من ذهب مزينة بأنواع الجواهر‏,‏ وعلي صدره نصل سيف لا قيمة له‏,‏ وعند رأسه حجريا قوت أحمر كبيضة دجاجة‏..‏ وقد رأيت الصنم‏(‏ التابوت‏)‏ الذي أخرج منه ملقي‏(!)‏ عند باب دار الملك بمصر في سنة‏511‏ ه‏.‏
هكذا ضاعت أثمن المومياوات بعد أن ظلت محفوظة داخل الهرم الأكبر آلاف السنين‏!‏
حبيبة أبي الهول
كان يقابل تمثال أبي الهول صنم عظيم الخلقة والهيئة متناسب الأعضاء‏,‏ في حجره مولود علي رأسه ماجور‏(‏ كأس أو وعاء‏).‏ والجميع من حجر الصوان‏,‏ يزعم الناس أنه امرأة‏,‏ وأنها سرية أبي الهول‏(‏ جاريته‏).‏ ويقال لو وضع علي رأس أبي الهول خيط ومد الي سريته لكان رأسها مستقيما
أين ذهب هذا التمثال؟‏!..‏ يجيب المقريزي‏:‏ نزل سنة الي‏711‏ ه أمير يعرف ببيلاط في نفر من الحجارين وكسروا الصنم المعروف بالسرية‏,‏ وقطعوه ظنا أن يكون تحته مال‏,‏ فلم يجد سوي أعتاب‏(‏ مصطبة أو قاعدة‏)‏ من حجر عظيم
وإن كان بلاط هذا قد خاب أمله بعد أن دمر التمثال النادر‏,‏ فإن من سبقوه‏:‏ فازوا بكميات ضخمة من التحف أو النفائس والحلي النادرة من المعابد‏,‏ ولم يحسنوا تقدير قيمتها الفنية الأثرية‏,‏ فكانت يد التخريب تنقض وبلا رأفة وتباعا علي المعابد والتماثيل الفرعونية فتحطمها لتستخرج دفين كنوزها‏..‏
هدم الأهرام
استمر ذلك الي عصر صلاح الدين وما بعده‏,‏ فقد كان عدد الأهرام كثيرا‏,‏ كلها صغار‏,‏ قال عنها المقريزي في خططه أنها‏:‏
هدمت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب‏,‏ علي يد الطواشي بهاء الدين قراقوش‏,‏ أخذ حجارتها وبني بها القناطر في الجيزة‏(‏ وأيضا بعض سور القاهرة‏)‏ وقد بقي من هذه الأهرام المهدودة تلها‏,‏ وأما الأهرام‏(‏ الثلاثة الباقية‏)‏ فهي موضوعة علي خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط‏,‏ وإثنان فيها عظيمان جدا في قدر وأحد تقريبا‏..‏ وهذه ملاحظة صحيحة من المقريزي الي حد بعيد وهما متقاربان ومبنيان بالحجارة البيضة‏,‏ وأما الثالث فصغير عنها نحو الربع‏,‏ ولكنه بني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد القوة والصلابة‏,‏ ولا يكاد يؤثر فيه الحديد إلا في المدي الطويل‏...‏ وقد سلك في بناء الأهرام طريق عجيب من الشكل والاتقان‏,‏ ولذلك صبر علي مر الأيام‏,‏ لا بل علي مرها صبر الزمان
ويذكر ابن ظهيره أنه في سنة‏593‏ ه كان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف‏,‏ لما استقل بالملك‏,‏ سول له جهله أصحابه أن يهدم الأهرام لأن تحتها مطلب‏(‏ كنز‏)‏ فبدأ بالصغير الأحمر‏,‏ وأخرج الحجارين وجماعة من أمراء دولته وعظماء مملكته‏,‏ وأمرهم بهدمه‏,‏ فخيموا عنده‏,‏ وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيولهم ومتاعهم‏,‏ يهدمون كل يوم بعد الجهد وبذل الوسع الحجر والحجرين‏.‏ قوم من فوق يدفعونه بالأسافين‏,‏ وقوم من أسفل يجذبونه بالحبل الغليظة‏,‏ فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة‏(‏ ضجيجا متصلا‏)‏ من مسافة بعيدة‏,‏ حتي ترتجف الجبال وتزلزل الأرض‏,‏ ويغوص في الرمل‏,‏ فيتعبون تعبا آخر حتي يخرجوه‏,‏ ويضربوا فيه بالأسافين بعدما ينقبون لها موضعا فيتقطع قطعا‏,‏ وتسحب كل قطعة علي العجل حتي تلقي في ذيل الجبل وهي مسافة قريبة فلما طال الوقت ونفدت نفقاتهم ووهنت عزائمهم‏,‏ كفوا عن ذلك محسورين ولم ينالوا بغية‏,‏ بل شوهوا الهرم وأبانوا عن عجز وفشل‏..‏
أما منف العاصمة الفرعونية العريقة‏(12‏ ميلا من الفسطاط‏)‏ فيقول ابن ظهيره أن أبنيتها وعجائبها وأصنامها وكنوزها لا تحصي‏..‏ وقد خر بها عمرو بن العاص
ويعلق العلامة البغدادي علي بعض هذا التخريب الذي شاهده بنفسه‏,‏ ناعيا علي المسلمين هذه السياسة الحمقاء‏,‏ مطلبا بالحفاظ علي هذه الآار حتي لو كانت للأعداء‏,‏ وذلك لعدة مصالح‏,‏ منها لتبقي تاريخا شاخصا‏,‏ ومنها أنها تكون شهادة للكتب المنزلة‏,‏ فإن القرآن الكريم ذكرها وذكر أهلها‏,‏ ففي رؤيتها خبر الخبر وتصديقه الأثر‏,‏ ومنها أنها تدل علي شيء من أحوال السلف وسيرتهم ووفرة علومهم وصفاء فكرهم‏...‏ لكن في زماننا هذا تحرك الناس بحسب أهوائهم‏,‏ وجروا نحو أطماعهم‏,‏ فلما رأوا آثارا هاذلة راعهم منظرها‏,‏ فانصرفت ظنونهم الي معشوقهم وهو الدينار‏,‏ فهم كما قيل في مدمن الخمر‏:‏
وكل شيء رآه ظنه قدحا‏,‏ وكل شخص رآه ظن الساقي فهم يحسبون كل شق منظور في جبل أنه يفضي الي كنز‏,‏ وكل صنم عظيم أنه حافظ لما تحت قدميه‏,‏ فصاروا يعملون الحيلة في تخريبه‏,‏ ويفسدون صور الأصنام إفساد من يرجو عندها المال
كنز الأسكندر
كان منار الأسكندرية من أبدع الآثار اليونانية‏,‏ ولأن معدودا من أحد عجائب العالم القديم‏,‏ وقد ذكره عمرو بن العاص في خطاب بعث به الي الخليفة عمر بن الخطاب يصف فيه الأسكندرية‏:‏
أما بعد‏,‏ فإني فتحت مدينة الأسكندرية‏,‏ وهي مدينة لا أقدر أن أصف ما فيها‏,‏ وهي ثلاثة مدائن بعضها فوق بعض‏,‏ تخطف الأبصار من شدة بياض حيطانها‏,‏ وفيها من الأعمدة الرخام مالا يحصي عددهم‏,‏ وبها منارة في وسط البحر‏..‏ وهذا المنار من جملة عجائب الدنيا‏,‏ ليس في سائر الدنياأعجوبة تشاكله‏.‏ وبها عمود يقال له عمود السواري‏,‏ له قاعدتان‏.‏ ووجدت بالمدينة أربعة آلاف دار محكمة البناء مفروشة بالرخام الملون‏,‏ وفي كل دار حمام تختص به
وعن قصة هدم هذه الأعجوبة نقل المقريزي في خططه عن المسعودي‏,‏ أن ملك الروم بع الي الوليد بن عبد الملك بن مروان جاسوسا ذا رأي ودهاء‏,‏ أخبره أنه جاء هاربا من ملك الروم الذي أراد قتله بسبب وشاية كاذبة‏,‏ وأنه راغب في الإلام‏,‏ وأسلم علي يد الوليد‏,‏ وتقرب من قلبه‏,‏ وحدثه عن دفائن‏(‏ كنوز‏)‏ في بلاد دمشق واستخرجها له طبقا لخرائط كانت معه‏,‏ فلما رأي الوليد الأموال والجواهر شرهت نفسه واستحكم طمعه‏,‏ فقال الجاسوس‏:‏
تحت منارة الأسكندرية أموال ملوك الأرض‏,‏ ذلك أن الإسكندر احتوي‏(‏ استحوذ‏)‏ علي الأموال والجواهر التي كانت لمولك مصر‏,‏فبني لها تحت الأرض الأقباء والسراديب‏,‏ وبني فوق ذلك منارة الأسكندرية‏,‏ وكان طولها في الهواء ألف ذراع‏,‏ والمرأة في علوه‏,‏ والدبادبة جلوس حوله‏,‏ فإذا نظروا العدو ف يالبحر في ضوء تلك المرأة صاحوا للقريبين منهم‏,‏ ونشروا أعلاما تنذر البلد‏,‏ فلا يكون للعدو عليهم سبيل‏.‏ فبحث الوليد مع هذا الخادم‏(‏ الجاسوس‏)‏ جيشا وأناسا من ثقاتة الي الأسكندرية‏,‏ فأزال المرآة وهدم نصف المنارة من أعلاها‏,‏ فضج الناس وقد علموا أنها مكيدة وحيلة‏.‏ وعرف الخادم أنه قد بلغ مأربه فهرب ليلا بمركب كان قد أعده‏(24)‏
ومهما كان الأمر من قصة هذا العميل الماكر‏,‏ ومن التهويل في القصة وفي قوة المرايا العاكسة‏,‏ فإن الذي بقي من طبقات المنار طبقته الأولي بارتفاع‏60‏ مترا‏.‏ وهذا المنار أنشأه ثاني ملوك البطالة بمصر سنة‏280‏ قبل الميلاد‏.‏ وكان عبارة عن برج ارتفاع‏120‏ مترا في جزيرة فاروس قرب شاطيء الأسكندرية‏,‏ يعلوه مشعل يضيء ليلا‏.‏ وفيما بعد تهدمت كذلك طبقته الأولي‏,‏ ثم بني علي أساسه حصن قايتباي‏.‏
وفي عهد صلاح الدين الأيوبي حطم واليه علي الإسكندرية جميع الأعمدة الرومانية البديعة التي كانت قائمة حول عمود السواري‏,‏ وألقي بها الي البحر‏,‏ ظنا منه أنها ترد مراكب الفرنج وتصد الأمواج‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.