ترسخ في عقول المصريين القدماء أن نهر النيل هو أصل الوجود الفعلي وواهب الحياة فقدسوه، وأن فيضانه السنوي هو سر الرخاء والنماء وجالب الخير للأرض التي تدين له بخصوبتها التي يجددها عاما بعد عام. فلم يكن بغريب أن ينتظروا قدومه بشغف ويحتفلوا به احتفالات ملؤها التفاؤل والفرح. وتعاقبت الأجيال ومضي الزمن وتوارث المصريون هذه العادة لما يزيد علي 40 قرناً من الزمان فكان الاحتفال بفيضان النيل عيداً بهيجاً للشعب المصري تحتفل به جميع عناصر وشرائح المجتمع، الأطفال والكبار الغني والفقير الجميع علي اختلاف عقائدهم ودياناتهم، كان عيداً قومياً بالمعني الدقيق للكلمة. كان للاهتمام بفيضان النيل بالإضافة إلي هذا بعد آخر بالنسبة للحكام وإدارة الدولة فمنسوب مياه النيل كان يحدد مساحة الأراضي التي سوف يغمرها الفيضان ويغطيها الطمي وعلي أساس ذلك كان يتم تحديد الضرائب والجزية، فأصبحت هناك حاجة شديدة إلي أن تكون هناك وسيلة دقيقة لقياس هذا المنسوب وهو ما كان سبباً في نشأة التكنولوجيا الأولي لقياس منسوب النهر مثلها مثل أي تكنولوجيا أخري تنشأ في المجتمع لسد حاجة معينة أو للتصدي أو لعلاج مشكلة ما وقد تكون هذه التكنولوجيا أداة أو آلة أو معرفة طريقة اتمام عملية ما (know how) مثل عملية عصر الحبوب للحصول علي زيوتها أو طحن الحبوب وتحويلها إلي مسحوق لاستخدامه في صناعة الخبز مثلاً. كانت بداية تكنولوجيا قياس منسوب النيل في صورة عصا طويلة مدرجة من البوص توضع رأسياً في مجري النهر. وصفها المؤرخون الإغريق القدماء في أعمالهم بعد ذلك بعدة قرون بكلمتين تتكون كل منهما من شقين، إحدي هاتين الكلمتين معناها نيل وقياس والأخري نيل ومراقبة أو ملاحظة. وكانت هذه العصا أداة محمولة وليست ثابتة عهد بها المصريون القدماء إلي الكهنة الذين كان لهم وحدهم الحق في استخدامها وكانوا يحتفظون بها في معبدهم ويحيطونها بصبغة دينية وأطلق عليها اسم سيرابيس ويقال إن ترجمتها »مقياس النيل» وسموا المعبد معبد سيرابيس. كان المقياس ينقل في أول يوم الفيضان إلي مكان القياس ويظل هناك حتي نهاية الفيضان ويعود مرة أخري إلي معبد سيرابيس. تطورت هذه الأداة بمرور الوقت واتخذت أشكالاً عديدة مختلفة وكذلك كان ما عليها من علامات وأحرف هيروغليفية تختلف من وقت لآخر. تشير النقوش القديمة علي المعابد إلي عدد من أشكال مقياس النيل فكان أحدها مثلاً يمثل عصا طويلة رأسية تنتهي بعصا عرضية قصيرة في طرفها العلوي، وأخري تنتهي بعدة عصي عرضية متوازية علي ارتفاعات مختلفة وكان طرفها العلوي في بعض الأشكال ينتهي بحلقة تشبه شكل مفتاح الحياة المعروف لدينا الآن. كما وجد بين النقوش ما يمكن وصفه بأشكال مختلفة تماماً عن العصا الطولية وهي علي شكل آوانٍ مختلفة الأشكال والأحجام وسطحها الداخلي الذي يمثل مجري النهر مقسم إلي ارتفاعات مختلفة. بمضي الزمن أضاف المصريون القدماء لهذه المقاييس المحمولة المتحركة مقاييس من نوع آخر ثابتة وذلك ببناء منشآت في أماكن متفرقة علي مجري النهر وهي عبارة عن أحواض حجرية ضخمة تدخل فيها مياه النهر أثناء الفيضان ويتم فيها قياس منسوب المياه عن طريق نقوش علي جدرانها الداخلية أو عن طريق أعمدة حجرية مدرجة تقام داخل الأحواض. كانت التقسيمات تقاس بالذراع (الطول ما بين الرسغ والكوع) وكل ذراع يتكون من 24 أصبع (قراط) وهكذا نري أن المصريين القدماء كانت عندهم منظومة متكاملة لقياس حركة النهر وطبيعة الفيضان أثناء الفيضان تتكون من مقاييس محمولة وغير محمولة أشار لها هيرودوت الذي مكث فترة طويلة في أرض مصر وجاب في أرجائها. توالت علي مصر بعد عصر حكم الفراعنة أي حكام مصر الأصليين عدة عصور تقاسمها حكام مختلفون فقد حكم مصر الفرس ثم البطالمة ثم الرومان ثم الحكم الإسلامي في القرن السابع الميلادي. استمر الاهتمام في كل هذه العصور بمقاييس النيل وهو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.