تهل علينا الشهر القادم ذكري وفاة مؤرخ وطني عُرِف برؤيته الخاصة للتاريخ المصري الحديث. التي ترتكز علي الجوانب الاجتماعية منه. إنه رؤوف عباس "أغسطس 1939 يونيو 2008". الحاصل علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي "1983" . وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2000. وبذلك يكون من علمائنا القلائل الذين تم تكريمهم في حياتهم. ولمن لا يعرف فإن رؤوف عباس وىلِد في أحد مساكن عمال السكة الحديدية ببورسعيد. حيث كان والده عاملا في السكة الحديد يشغل أدني درجات السلم الوظيفي الخاص بالعمال. وكان جده لأبيه عاملا أيضًا بالسكة الحديد نزح من جرجا بسوهاج. وكانت والدته بورسعيدية من أصول دمياطية يعمل والدها "بمبوطي" يبيع التذكارات الشرقية علي ظهر قارب عند مدخل القناة. هذه النشأة حددت موضوع رسالته للماجستير. وهو "الحركة العمالية وتاريخ الحركة النقابية في مصر". نشر عباس سيرته الذاتية عام 2004 في كتاب بعنوان "مشيناها خطي". وفيه يتحدث عن طفولته التي عاشها في عزبة هرمس بحي شبرا القاهري. ننقل منه الفقرات التالية: كان سكان عزبة هرمس في معظمهم من أهل الريف الذين نزحوا من القاهرة طلبًا للرزق وفرارًا من الفقر إلي البؤس والشقاء. جاء معظمهم من قري المنيا. ولا بد أن يكون هناك من لعب دور الريادة في اختيار المكان للسكني واجتذب وجوده بها أبناء جلدته وقريته. فتجمع المنياويون في هذا المكان. ولعل أصول جدة صاحبنا المنياوية "يتحدث المؤلف عن ذاته بصيغة الغائب" كانت وراء اختيارها الإقامة هناك حتي وفاتها عام 1963. كان سكان العزبة متوزعين توزيعًا متساويًا بين الإسلام والمسيحية في بعض البيوت. بينما كان المسلمون أقلية في البعض الآخر من تلك البيوت. ولعل تجمع الأقباط المنياويين الفقراء في هذا المكان يعود إلي قربه من كنيسة مارجرجس التي تقع في نهاية شارع الجيوشي. وكان فناء الكنيسة مرتعًا لأطفال العزبة من المسلمين والأقباط معًا. ويذكر د.رؤوف مشاركته أصحابه اللعب في فناء الكنيسة. وتناوله لقمة القربان من يد "أبونا" القمص. ويذكر "عمته" أم جرجس جارة جدته التي كانت تناديها "يا أمي". وكانت تخاطب والده "يا أخويا". ويقول إنه ظل حتي الثامنة من عمره يعتقد أن "عمته" أم جرجس شقيقة لوالده وابنة لجدته. خاصة أن والده كان ينادي الجدة "يا حماتي". ويري عباس أن عزبة هرمس كانت بمثابة "مصر الصغري". عاش سكانها معًا وكأنهم أسرة واحدة يأكلون معًا من طبق واحد. فرغم فقرهم الشديد كانوا يتبادلون أطباق الطعام والحلوي. ولم تكن أيام صيام الأقباط العديدة عائقًا أمام استمرار هذه العادة. بل كان الجميع مسلمين وأقباطا صائمين معظم العام بالمفهوم القبطي للصيام. لا تعرف "طباليهم" اللحوم إلا في المواسم والأعياد. وكانت النسوة المسلمات والأقباط يتبادلن إرضاع أطفال بعضهم البعض. ورعاية أطفال بعضهم البعض إذا اضطرت إحدي الأمهات إلي السفر إلي قريتها فجأة لأمر طارئ. رحم الله مؤرخنا الكبير. ورحم الأيام التي تحدث عنها بحلوها ومرها. فتجربته في الحياة تروي قصة التحول الاجتماعي في مصر في نصف قرن. لقطة: لماذا تقدموا وتأخرنا؟ سؤال يطرح نفسه مع خبر منحة صينية لمصر لتدريب موظفيها وعمالها في مجال السكك الحديدية. رغم أن مصر هي الدولة الثانية في العالم التي دخلتها السكك الحديدية بعد انجلترا. والمفروض أن لديها خبرة متراكمة في هذا المجال تفوق ما لدي الصين.