ذكرت صحيفة الشروق المصرية (4/6/2011) في صدرصفحتها الأولي أنّ الجيش المصري كشف عن مخطط لتقسيم مصرإلي 3دول. منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين، تبنت المعاهد الأمريكية المتخصصة في رسم السياسة الخارجية، مشروع تقسيم مصرإلي ثلاث دويلات (الأولي للنوبيين في النوبة، والثانية للمسيحيين في وجه قبلي، والثالثة للمسلمين في وجه بحري ) وهذا المخطط لتقسيم مصريجد تحالفًا وثيقًا بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة والصهيونية. وكان من بين هذه المخططات المشروع الذي أعدّه (المستشرق الصهيوني برنارد لويس الذي دعا فيه إلي تقسيم مصرإلي دولتين علي الأقل، واحدة إسلامية والثانية قبطية (يقصد مسيحية لأنّ كل المصريين أقباط) وكذلك الندوة التي عقدت في مايو 92ودعا إليها مركز (باران إيلان) للأبحاث الاستراتيجية في إسرائيل وناقشتْ أحد عشربحثًا كان من بينها بحث بعنوان (الاستقطاب بين المسلمين والأقباط في مصر) وقبل هذه الندوة نُشرت وثيقة (بعنوان استراتيجية إسرائيل في الثمانينات) تناولتْ أهمية تقسيم مصرجغرافيا إلي مناطق إقليمية. وأنّ واضعي الوثيقة يرصدون (تنامي الشقاق بين المسلم والمسيحي) ولذلك فهم ينصحون باستغلال هذا " الشقاق " الديني كمدخل لإمكانية قيام دولة مسيحية في صعيد مصر) (طريق مصرلقبول الذات - تأليف خالد عثمان- مركزالقاهرة لدراسات حقوق الإنسان-عام 2006 ص21) هذا المخطط الذي تسعي إليه أمريكا وإسرائيل لتدميرمصر(شعبًا وحضارة) لن يتحقق إلاّ إذا فرّطنا نحن المصريين في عناصرتمسكنا القومي . وأنّ هذا التماسك يجعل كل مخططات تقسيم مصرمثل (مركب ورق من نفخة بتتطوح) علي حد الوصف الدقيق للشاعرالمبدع صلاح جاهين لنظام يوليو 1952 . تتميز أمتنا المصرية بالتجانس الذي يشكل (جهازالمناعة) ووظيفته الدفاع عن أي محاولة لتفتيت شعبنا علي أساس ديني أومذهبي . أول عناصرالتماسك أننا أبناء ثقافة قومية واحدة. والثقافة القومية تعني مجموع أنساق القيم التي أبدعها شعب من الشعوب عبرتاريخه الممتد . مثل نظرة المجتمع إلي المرأة، وهل هي إنسان كامل، كما هوالوضع في المجتمعات المتحضرة؟ وأيضًا نظام تكوين الأسرة. وأسلوب التعبيرعن الفرح والحزن وفلسفة الموت إلخ . هذا العنصر(الثقافة القومية المصرية) هوالذي وحّد شعبنا، رغم تعدد الأديان والمذاهب. ولنا في التاريخ القديم والوسيط أكبر دليل : فقد غيرشعبنا ديانته أكثرمن مرة. من الديانة المصرية إلي المسيحية إلي الإسلام . وغىّرمذهبه من السنة إلي الشيعة ثم إلي السنة من جديد. بل إنّ المصريين المسلمين (رغم سنيتهم) من أكثرالشعوب احتفالا بأبناء الإمام علي بن أبي طالب أحفاد الرسول الكريم . لذلك تأخذنا الثقافة القومية لنتوقف أمام عشق شعبنا (مسلمين ومسيحيين) لدرجة الولع بالأولياء والقديسين . وهوالعشق المتجسد في ظاهرة الموالد . فإذا كان المصريون المسلمون يتوجّهون إلي أضرحة الأولياء المسلمين، فهذا ما يفعله المصريون المسيحيون بالضبط مع أوليائهم. والشيء الملفت للانتباه - والذي تتغاضي عنه الثقافة السائدة في مصر- هومظاهرالاحتفال. هنا نجد التماثل التام بين المسلمين والمسيحيين. فنجد باعة القصب والحمص ومراجيح الأطفال. والسيدات الجالسات علي الأرض وأمامهن آنية طهي الطعام. وتلح كل منهن علي المارة للجلوس لتناول الطعام أو لشرب الشاي والينسون . وهذا ما شاهدته بعيني في موالد الأولياء المسلمين والمسيحيين . كذلك تتشابه الموالد الإسلامية والمسيحية في ظاهرة الغناء والمواويل في مدح الولي المحتفل به . ويبقي الاختلاف الوحيد في الكلمات الموجهة لصاحب الاحتفال. ولكن حتي الإيقاع الموسيقي واحد ومستمد من ذات النبع المصري القديم، خاصة في استخدام الناي الذي يعشقه المنشد المسلم والمنشد المسيحي. كما أنّ الألحان هي امتداد للألحان التي كانت تعزف في المعابد المصرية منذ آلاف السنين، وهوالأمرالذي أكده كثيرون مثل د. سيد عويس الذي ذكرأنه زارإحدي حلقات (الحضرة الصوفية) مع الموسيقي سليمان جميل ((وجدنا الكلام أحدث من اللحن، اللحن كنسي والكلام إسلامي، مدح في الرسول والحسين والأولياء)) (أبعاد الشخصية المصرية بين الماضي والحاضر- مجموعة دراسات إعداد وتقديم طلعت رضوان- هيئة الكتاب المصرية- عام 1999ص 85). الموالد ماالذي وحّد شعبنا في ظاهرة الموالد لدرجة العشق ؟ ولدرجة أنّ الزائرالأجنبي لايستطيع أنْ ىُفرّق بين مولد مسيحي وآخرإسلامي ؟ الذي وحّده هوالجذرالتاريخي لمجتمع نهري / زراعي . عرف التعبيرعن الفرح في موسم الحصاد. فكان الرقص والغناء. ومع إبداع أجدادنا لفكرة الآلهة تنوعتْ الاحتفالات. فكان الاحتفال ب (حابي) إله النيل و(رع)إله الشمس وآمون وإيزيس وحورس إلخ . هذا الجذرالتاريخي وامتداده في الحاضر لخّصه عالم الاجتماع الكبير د. سيد عويس عندما كتب (إنّ مكانة الآلهة المصرية انتقلت في فترات التحول في تاريخنا المصري بعملية توفيقية إلي الأنبياء والقديسين ثم الأولياء) (الازدواجية في التراث الديني المصري ص 17) إنّ ما ذكره د. سيد عويس يؤكد أنّ الثقافة القومية المصرية ثقافة اتصال الانقطاع . ويؤكده (أيضًا) ما ذكره أ. محرم كمال عن احتفال شعبنا بمولد (سيدي أبوالحجاج)بالأقصر، من أن ضريح هذا الولي داخل مسجد أقيم علي جزء من معبد الإله آمون. وكما كان الإله يخرج في احتفال مهيب من معبده مرة كل عام في سفينته المقدسة، فيطوف أرجاء مدينته التي يتولاها بحمايته ورعايته، فإنّ سيدي (أبو الحجاج) يخرج هوأيضا مرة كل عام) (آثارحضارة الفراعنة في حياتنا الحالية - الألف كتاب عدد 38ونشرته دارالهلال عام 1965 من ص 73 - 79 ) يصل العمق الحضاري لشعبنا في ظاهرة الموالد لدرجة أنْ يتأثرسكان منطقة المعصرة (بالقرب من حلوان) من المسلمين بالولي المسيحي (ماربرسوم) فيطلقون عليه اسم ( سيدي محمد برسوم) (الموالد في مصر- تأليف مكفرسون- هيئة الكتاب المصرية- ص 363) وأكثرمن ذلك فإنّ الموالد وحّدتْ شعبنا في مظهرآخرهواشتراك المسيحيين والمسلمين في الاحتفال الواحد . مثلما يحدث في شهربؤونة / يونية من كل عام، عندما يحتفل (مسيحيون ومسلمون) في محافظة المنيا بذكري مرورالسيدة مريم العذراء وابنها عليهما السلام بمنطقة جبل الطيرشرق سملوط أثناء رحلتها المقدسة (تحقيق أ. محمد شعبان- جريدة القاهرة 1 /8 / 2006 ص 20) يتجسّد توحّد شعبنا في ظاهرة أخري رصدها د. سيد عويس الذي ذكرأنه رغم تعدد الأديان تجد سيدة مسيحية تصوم شهررمضان كي ينجح ابنها . و تزورالسيدة زينب. وبالعكس تجد سيدة مسلمة تصوم صيام العذراء أو تزورماري جرجس أو القديسة دميانة (المصدرالسابق ص 81 ) اذا أردنا أنْ ننتقل إلي خاصية أخري من خصائص الثقافة القومية المصرية، ندخل إلي باب الإبداع الشعبي . فالأمثال الشعبية مثل (من قدم السبت لقا الحد قدامه. ومن خدم الناس صارت الناس خدامه)، (العمل عبادة) إلخ وغيرها بالآلاف، تدخل ضمن المكون الثقافي لشعبنا . أبدعها ورددها المسيحيون والمسلمون . ولايستطيع أحد أن يدّعي أن هذا المثل أبدعه مسلم وذاك المثل أبدعه مسيحي . وبالتالي لايمكن الادعاء أن هذه الأمثال مسيحية أوإسلامية . وإنما هي مصرية وعليها ختم الطين المصري. إن من يتأمل المثل المصري : اعمل الخير وارميه في البحر يكتشف أن مبدعه واحد من أبناء حضارة الزراع / الصناع علي حد قول د. حسين فوزي . فحيث وفرة المحصول، يتولد الكرم وحب العطاء، وهو ما نلمسه في ظاهرة (اتفضل كل) التي لا يزال شعبنا يمارسها رغم تقشف حياته. كما أن هذا المثل يعني أن مبدعه لا ينتظرمقابلا لعمل الخير، لامن الأرض ولامن السماء. والأهم أنّ هذا المثل وجده علماء المصريات مدوّن علي البرديات المصرية التي تركها جدودنا المصريون القدماء. النكتة أما النكتة المصرية : فمن يستطيع أنْ يقول ان مبدعها مسيحي أو مسلم؟ حتي النكت ( جمع نكتة وهي صحيحة لغويا ) التي تنتقد رجال الدين والتعصب، هي أيضًا مختومة بختم الطين المصري، الذي عرف التسامح ونبذ العنف وعشق التعدد. لذلك لايستطيع أي باحث أو مؤرخ أنْ يجزم بالهوية الدينية لمؤلف المثل المصري (سيب الملك للمالك) هل هومسلم أم مسيحي؟ والإجابة انه مصري يقول بالمصري الفصيح (لاتتدخل فيما لايعنيك. ولاتجعل من نفسك وصيا علي غيرك) وقل نفس الشيء عن الموال المصري الذي دافع مبدعوه عن الحب والعطاء والوفاء وتماسك الأسرة. مع إدانة الغدر والخيانة. فمن يستطيع الادعاء أن مبدع الموال (مجهول الاسم) مسيحي أم مسلم ؟ ومن يملك جرأة الادعاء أنّ الاحتفال بسبوع الطفل وخميس وأربعين المتوفي وطريقة الدفن وطلوع القرافة وتوزيع (الرحمة) علي روح الميت إلخ انها مسيحية أوإسلامية ؟ لأنّ كل هذه المظاهر ورثها شعبنا عن جدودنا المصريين القدماء. المرأة المصرية (مسيحية وإسلامية) عندما يطلّقها زوجها أوعندما يموت الزوج، ظلّتْ (كقاعدة مع الاعتراف ببعض الاستثناءات) لعدة آلاف من السنين ترفض الزواج الثاني . وتفضّل استمرار حياتها وحيدة من أجل تربية أطفالها. وهي الظاهرة التي رصدها الراحل الجليل أ. خليل عبدالكريم عندما عقد مقارنة بين المرأة المصرية والمرأة العربية. وعن السبب الذي مىّزبين الاثنتين قال إنه (بكل بساطة الفرق بين الحضارة، بل أعرق حضارة عرفها التاريخ وبين البداوة) ( العرب والمرأة- سيناء للنشروالانتشارالعربي عام 98 ص 229- 230) بعد هذا المختصرالمستمد من الإبداع الشعبي كجزء أصيل من مكونات الشخصية المصرية، أنقل ما ذكره د. رءوف عباس عن فترة طفولته في نهاية الأربعينات من القرن العشرين، حيث كانت جدته تقيم بعزبة (هرمس) وبالقرب منها كنيسة ماري جرجس بالترعة البولاقية بشبرا. كتب (كان فناء الكنيسة مرتعًا لأطفال العزبة من المسلمين والأقباط) وأنه تناول لقمة القربان من (أبونا) القمص ويتذكر(عمته) أم جرجس جارة جدته التي كانت تناديها (يا أمي) وتخاطب والده (يا أخويا) وظلّ الصبي رءوف حتي بلغ الثامنة من عمره يعتقد أن (عمته) أم جرجس شقيقة والده وابنة جدته. خاصة أنّ (أبوجرجس) كان ينادي الجدة (ياحماتي) لذلك (كانت عزبة هرمس بشبرا (مصرالصغري) عاش سكانها معًا كأسرة واحدة. يأكلون معًا من طبق واحد . والنسوة المسلمات والقبطيات يتبادلن إرضاع أطفالهن ورعاية بعضهن البعض) (مشيناها خطي- كتاب الهلال- عام 2004 ص 21- 22). اذا كانت هذه الصورة التي وعتها ذاكرة د. رءوف تعكس الكثيرمن الدلالات عن العلاقة بين أبناء أمتنا المصرية رغم الاختلاف الديني، فإنه نقل صورة أخري هي تجسيد حي لمعاني العطف والرحمة المتأصلة في الوجدان المصري. إذْ رأي ذات يوم عربجي حنطور يجلس علي حافة الرصيف وبين يديه قرعة البوظة. يشرب ويسقي الحصان معه من نفس الوعاء (ص39) هل تساءل د. رؤوف عن ديانة هذا العربجي الذي توحّد مع حصانه؟ لاأظن. لاهوولاأي إنسان متحضريفكر في السؤال. لأنّ المهم هوالثقافة القومية للعربجي وليست ديانته . إنّ ثقافتنا القومية المصرية تقول إننا رغم تعدد الأديان شعب واحد لا شعبىْن ولا عنصرىْن كما تقول الثقافة السائدة البائسة (في أقل وصف) وأن شعبنا (مسلمين ومسيحيين) لم ولن يفكر في تقسيم مصر. ولكن هل ثقافتنا القومية تستطيع الصمود لمواجهة المخطط الأمريكي -الإسرائيلي الذي يخاطبنا إعلامه علي أساس الديانة؟ وهل ثقافتنا القومية تستطيع مقاومة الأصولية الدينية (مسيحية وإسلامية) حتي يكون انتماؤنا للوطن (مصر) قبل أي انتماء آخر؟ وهل ثقافتنا القومية تستطيع مقاومة الأصولية الإسلامية التي تحلم بنفي المصريين المسيحيين من مصر؟ وتكرس للإنتماء الديني كي تنفي الإنتماء للوطن. الأمل في هزيمة المخطط الأمريكي -الإسرائيلي، وفي إجهاض حلم الأصوليين الإسلاميين في تفتيت مصر، هو أن يساند التعليم والإعلام جهازالمناعة القومي في أنْ يسبق الانتماء لمصرالانتماء للدين . أنْ نكون مصريين قبل أن نكون مسلمين أومسيحيين . أن نكون مصريين كما كنا قبل يوليو 1952 .