"أنا الآن وأنا أحدثك جائع".. ونحن نشرع في سرد هذا الموضوع نبدأ بالرسالة التي وصلتنا من أحد من يروي لنا واقع قطاع غزة الحالي، الذي لم يعد يُسمع صوت جوعاه من شدة ما خوت الأمعاء من الطعام والشراب. "القتل جوعًا".. ذلك المصطلح لم نكن لنعرفه قبل "مقتلة المُجوّعين"، التي عاصرنا الاحتلال الإسرائيلي يُنفذها بحق نحو 2.4 مليون شخص داخل قطاع غزة، فمن لم يقتله الاحتلال بالقصف أو بالرصاص أماته من الجوع أو من الظمأ. رحلة البحث عن الخبز في قطاع غزة تبدأ من العدم، فلم يعد يُسمع صوت الضجيج الذي يُنتج طحينًا، ورحلة البحث عن الشراب تتوقف عند آبار معطلة ومدمرة، أما الحليب فلم يعد حتى يخرج من أثداء الأمهات ليسكتن أنين رضيع لم يعد يقوى على العويل. ومنذ الثاني من مارس/ آذار الماضي يُطبق الاحتلال الإسرائيلي حصاره المحكم على قطاع غزة كإجراء عقابي جماعي اتخذه إبان تعثر مفاوضات تمديد اتفاق الهدنة في غزة إلى المرحلة الثانية مع حركة حماس قبل أن يستأنف حربه على القطاع لاحقًا في الثامن عشر من الشهر ذاته. قرابة ال150 يومًا وقطاع غزة محاصر من كل الجهات برًا وبحرًا وجوًا لينزلق القطاع إلى أزمة إنسانية كارثية ومجاعة تنهش في أجساد الأطفال قبل الكبار ووصلت إلى مرحلتها الخامسة، وفق ما ذكره مصدر من داخل القطاع. أوضاعٌ كارثيةٌ لم يُعرف لها مثيل من قبل، بل حتى لم يشهدها قطاع غزة في الأشهر الأولى من الحرب الإسرائيلية، التي وصلت لشهرها الثاني والعشرين ولم تتوقف، تلك التي آلت إليها الأمور في غزة وسط تفشي الأمراض وتهالك الأجساد في ظل شح المساعدات ومواد الغذاء. اقرأ أيضًا: حكومة غزة: نحتاج يوميًا 600 شاحنة إغاثية و250 ألف علبة حليب شهريًا للأطفال الرُّضَّع مساعدات «لا تكفي حارة» ويقول أحمد حجاج الجبالي، مسؤول محلي في قطاع غزة ببلدية رفح، "الاحتلال يقدم عددًا شحيحًا من الشاحنات والمساعدات"، مشيرًا إلى أن تسليم تلك المساعدات من الاحتلال يتم بين ساعات وأوقات غير محددة. ويضيف الجبالي، ل"بوابة أخبار اليوم"، أن "نسبة 5% فقط من الحاضرين لاقتناء المساعدات هم من يحصلون عليها، فيما يتم حرمان البقية من الحصول على المساعدات، حيث أنهم (الاحتلال) يوزعون شحنات في سيارات صغيرة لاثنين مليون مواطن فلا يستفيد سوى 5% فقط". ويشير الجبالي إلى أن المناطق التي يوزع فيها الاحتلال المساعدات تكون مختلفة وبعيدة جدًا عن مناطق سكن المواطنين، مضيفًا أن تفريغ الشاحنات يعلوها بلطجية ملثمين، ويتعمد الاحتلال في إدخالها بطريقة إذلال وإهانة. ويؤكد الجبالي أن الشاحنات التي يتم توزيعها من قبل الاحتلال في القطاع عددها قليل للغاية في مواجهة العدد الهائل من السكان، وأن هذا العدد من الشاحنات لا يكفي حارة في القطاع. وحول المواد الغذائية، التي تلج القطاع، يقول الجبالي: «ما يدخل غزة هو طحين وبعض البقوليات وبشكل عالٍ جدًا في الأسعار"، مستطردًا: "أما اللحوم والأسماك والمواد السكرية وغيرها معدومة". ويؤكد الجبالي أنه لم يصله أي شي من المساعدات خلال الفترة الأخيرة، وكذلك الحال بالنسبة لسائر المواطنين المقيمين في منطقته. أوضاع كارثية لأطفال غزة وفي خضم المجاعة الكارثية في قطاع غزة، تبرز قضية الأطفال كواحدة من أبشع القصص الإنسانية لأوضاع عصيبة يعيشها من يمتلكون الأظافر الناعمة، التي أخشوشنت وتشققت مبكرًا بفعل ما يرتكبه الاحتلال من جريمة تجويع شاملة مكتملة الأركان. ومن بين 127 شخصًا فاضت أرواحهم إلى السماء بفعل "المجاعة المميتة"، كانت الغالبية العظمى من بينهم من الأطفال، حيث توفي 85 طفلًا نتيجة سوء التغذية، وفق ما ذكره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. لكن الأوضاع المتعلقة بحياة الأطفال ستزداد سوءًا في الأيام المقبلة، خاصةً من هم دون العامين، والذين هم بحاجة ماسة لعبوات الحليب الخاصة بالأطفال الرُضعّ، وسط نقص حاد لكمياتها داخل القطاع. وقد حذّر المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة من كارثة إنسانية غير مسبوقة وشيكة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة بحق أكثر من 100 ألف طفل أعمارهم أقل من عامين، بينهم 40 ألف طفل رضيع أعمارهم أقل من عام واحد، يواجهون جميعًا خطر الموت الجماعي الوشيك خلال أيام قليلة، في ظل انعدام حليب الأطفال والمكملات الغذائية بشكل كامل. وأكد المكتب الإعلامي الحكومي، في بيانٍ صدر عنه، حصلت "بوابة أخبار اليوم" على نسخةٍ منه، أنه مطلوب توفير 250 ألف علبة حليب شهريًا لإنقاذ الأطفال الرُّضّع من سياسة الجوع وسوء التغذية التي غزت أجسادهم الضعيفة طيلة المرحلة القاسية الماضية. وفي هذا الإطار، يقول الصحفي الفلسطيني منذر الشرافي، المقيم في غزة، "الأوضاع مأساوية وكارثية بكل معنى الكلمة.. فالشيخ جائع والرجل جائع والنساء والأطفال جوعى". ويؤكد قائلًا: "لا أحد مستثنى هذه المرة من هذه المقتلة.. أنا الآن وأنا أحدثك جائع". آلاف الأجنة «ماتت» ويضيف الشرافي، ل"بوابة أخبار اليوم"، أن أكثر من نصف مليون نسمة دخلوا المرحلة الخامسة من المجاعة على حسب تقارير دولية وأممية، مؤكدةً أن هذه هي المرحلة الأشد خطورة على حياة الإنسان. ويتابع قائلًا: "آلاف النساء الحوامل تم إجهاضهن وآلاف الأجنة ماتت في بطون الأمهات بسبب سوء التغذية، والمرضعات هنا في قطاع غزة لا يوجد حليب في صدورهن لإطعام أطفالهن بسبب قلة الغذاء وسوء التغذية". ويسهب في حديثه قائلًا: "عمليات الإجهاض لدى النساء الحوامل منتشرة بكثرة بسبب سوء التغذية، خاصةً أنه لا يوجد طعام، وإذا وُجد الطعام يكون بمبالغ طائلة، حتى الأطعمة ليست متنوعة كي تخدم جسم الإنسان، الذي يحتاج لعديد من العناصر سواء الفيتامينات أو المعادن". ويتحدث الشرافي عن أن المساعدات التي تدخل قطاع غزة لا تلبي احتياجات 1% من إجمالي سكان القطاع، وحتى حليب الأطفال غير موجود في القطاع، مشيرًا إلى أن آلاف الأطفال هنا في القطاع حياتهم باتت مهددة بسبب قلة الحليب. اقرأ أيضًا: تحقيق| «عائدون إلى المنزل».. كيف وجد الغزيون ديارهم «المتهالكة» بين أطلال الحرب؟ 35 دولارًا من أجل الدقيق والخبز وفي ظل شح المواد الغذائية في قطاع غزة، تمثل اقتناء أبسط مواد الطعام تحديًا كبيرًا وشاقًا على السكان، في ظل علاقة عكسية تجمع قلة المواد الغذائية بأسعارها، فوفقًا لشهود عيان يعيشون على الأرض في غزة، فإن أسعار المواد الغذائية وصلت إلى أرقام باهظة الثمن في ظل ندرة هذه الأطعمة. ويقول رامي عزارة، مسؤول إعلامي بمفوضية الشهداء والأسرى والجرحى في غزة، "المجاعة ونقص الطعام وصل لمرحلة صعبة جدًا جدًا بالقطاع". ويضيف عزارة، ل"بوابة أخبار اليوم"، إنه "منذ أربعة أشهر لم تصل المساعدات إلا للعصابات وقطاع الطرق والبلطجية". ويشير عزارة إلى أن أسعار السلع الآن مرتفع جدًا، فعلى سبيل المثال وصل سعر كيلو الدقيق، والذي هو أساس الطعام ولا يمكن الاستغناء عنه إلى 35 دولارًا، وكذلك سعر كيلو الطماطم 32 دولارًا. ويلفت إلى أن ارتفاع أسعار هذه السلع يأتي في ظل أن هناك مئات الآلاف من المواطنين لا يوجد لهم أي مصدر دخل، وحتى الموظفين العموميين لم يتلقوا رواتبهم منذ فترة. والدقيق (الطحين) هو عامل رئيسي وأساسي في إنتاج الخبز، وقد اشتكى المكتب الإعلامي الحكومي في غزة من نقص حاد في كميات الطحين، وأكد مؤخرًا أن قطاع غزة بحاجة ماسة إلى ما لا يقل عن 500 ألف كيس طحين أسبوعيًا لتجنّب الانهيار الإنساني الشامل. ويتحدث عزارة عن أنه من الأساس لا يوجد في القطاع سوى القليل جدًا من الخضار والمزروعات محليًا، والتي لا يستطيع شراءها سوى القليل جدًا من المواطنين، في إشارةٍ منه إلى ارتفاع أثمانها هي أيضًا. نقص حاد بالمياه ويُعرج رامي عزارة بالحديث عن أزمة النقص الحاد بالمياه، مشيرًا إلى أن غالبية البلديات في قطاع غزة، والتي تزود المواطنين بالخدمات الرئيسية، أعلنت عن توقف عملها لعدم وجود سولار لتشغيل آبار المياه والخدمات الأخرى. ويكمل حديثه قائلًا: "كل ذلك مع استمرار المجازر والقتل اليومي، وكذلك أعباء النزوح من مكان إلى آخر والذي يتطلب مبالغ مالية كبيرة". وفي الأثناء، وفي الساعات الأولى من صباح اليوم، بدأت عملية إدخال مساعدات إلى داخل قطاع غزة سواء عبر معبر رفح أو عن طريق عمليات الإسقاط الجوي، التي أُعلن عن اسئتنافها، في وقتٍ أعلنت إسرائيل "تعليقًا تكتيكيًا" لعملياتها العسكرية عبر هدنة جزئية في أجزاء من قطاع غزة لإفساح المجال أمام توزيع الإعانات للفلسطينيين. وفي عضون ذلك، يقول الصحفي الفلسطيني أحمد معين قنن، المتواجد في قطاع غزة، إن "المساعدات التي سمعنا أنها ستدخل قطاع غزة تحتوي فقط على الطحين والسكر وبعض المعلبات، ولكن هنا في قطاع غزة نحن نحتاج إلى باقي الأصناف التي يتم إدخالها لإنقاذ ما يتبقى من حياة فعلية في القطاع". ويضيف معين قنن، ل"بوابة أخبار اليوم"، "نحن بحاجة مثلًا إلى البيض والدجاج ومثل تلك الأصناف التي تحتوي على البروتينات والفيتامينات، والأصناف التي شاهدناها في الأسواق خلال السنوات الماضية". «نشتاق لحبة شوكولاتة» ويتابع قائلًا: "نحن نشتاق لحبة شوكولاتة واحدة.. نشتاق لقطعة بسكويت واحدة.. نشتاق لطهي الطعام، الذي كنا نأكله قبل الحرب.. نشتاق فعليًا لأن نأكل هذا الطعام بحالة هدوء تامة". ويمضي قائلًا: "فعليًا المعاناة تتفاقم وتزداد، ولكن ربما في الأيام المقبلة يتم طي صفحة هذه المعاناة من خلال تكليل الجهود المصرية الحثيثة، وفعليًا يتم ضخ المزيد من المساعدات في قطاع غزة، ونحن نوجه رسالة شكر لجمهورية مصر الشقيقة، التي لم تتوان للحظة لتقديم يد العون للشعب الفلسطينيين برمته، وتحديدًا الغزيين في ظل ما نعايشه من حرب لا تزال مستمرة وتداعياتها تتفاقم". ويسرد الصحفي الفلسطيني معين قنن تفاصيل المعاناة والواقع المرير الذي يعيشه قطاع غزة في ظل المجاعة الحالية، قائلًا: "المعاناة وصلت إلى درجات كبيرة ووصلت إلى مراحل لا يمكن استيعابها في ظل النقص الحاد في المواد". ويضيف قائلًا: "الأطفال هنا في قطاع غزة يسيرون في الأسواق، ويتأملون بعضًا من الخضراوات الموجودة مثل البطاطا، وهم يشتهون تناولها، ولكن لا يستطيعون تذوقها لأنها باهظة الثمن كما أنها شحيحة، كما أن هذه البطاطا ربما لا تصلح للأكل لعدم توفر البيئة المناسبة لزراعتها". ويشير معين قنن إلى أن بعض الأصناف في قطاع غزة لا تكفي لسد احتياجات الغزيين، وربما يصل كيلو البندورة الواحد (الطماطم) إلى أكثر من 100 شيكل إسرائيلي (حوالي 30 دولارًا)، وغالبية عائلات قطاع غزة لا تقوى على هذا الصرف، في وقتٍ كان سعر الكيلو الواحد قبل الحرب شيكل واحد أو اثنين على الأكثر، والآن صار 100 شيكل. ويؤكد أنه هناك حاجة ماسة لإعادة تفعيل آبار المياه لضخ المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي والصالحة للشرب فعليًا، فالمياه التي نشربها هي مياه غير صالحة نظرًا لاستهداف الآبار بشكل متكرر، ونظرًا لعدم وجود المواد الأساسية لتحلية المياه، مما يجعل المعاناة تتفاقم، والأجساد مهترئة وتعاني الأمرين، وهما الجوع والعطش. إغماءات في الطرقات ويروي معين قنن أنه "في الأيام الماضية كنا نشاهد الغزيين يسيرون في الطرقات ثم يسقطون أرضًا نظرًا لعدم توفر المواد الغذائية، ورأينا عددًا من الأطفال والنساء يشربون الماء المالح من شدة العطش". ويتابع: "أنا قبل ثلاثة أيام سقطت مغشيًا عليّ أثناء إجراء مقابلة على الهواء نظرًا لعدم توفر الغذاء، ومنذ أيام لم نأكل الطحين، ومنذ أيام لم نملك مقومات الحياة، وعشنا فعليًا فقط على المياه، وأجسادنا الآن بحاجة إلى المنقذات". ويشدد معين قنن على أن الاحتياجات في قطاع غزة تفوق الوصف خاصةً أن المعابر في القطاع مغلقة منذ شهر مارس الماضي مما فاقم المعاناة وجعل المجاعة تتفشى في صفوف الغزيين، وأن ما يدخل في قطاع غزة حتى هذه اللحظة لا يكفي لمركز إيواء واحد. ما تُلي في هذا الموضوع هو قطراتٌ من فيض حقيقة لن يعرف مأساتها ولا يُدرك واقعها المؤلم إلا من يبيت ليله في خيام مهترئة وفي مخيمات تهالكت وتحت أسقف مدارس ومبانٍ قصفها الاحتلال وأخرجها من واقع الحياة الآدمية.