* هل الصحافة والإعلام مهنة أم رسالة تدافع عن قضية..؟ هذا السؤال تدافع إلي ذهني وأنا أرقب بمرارة ما وصلت إليه صحافتنا وإعلامنا.. فأعداد المشتغلين في حقل الإعلام في ازدياد مستمر.. وقيم المهنة في تراجع.. حاجة الأمة إلي صحافة وإعلام مستنير ملتزم بقضايا المجتمع تتعاظم مع قسوة الظروف المحيطة بمصر والمنطقة كلها من إرهاب وتآمر وتحالف شيطاني خارجي وداخلي ضد مصالح أوطاننا وفي المقابل يتضاءل عدد من يحمل قضية وطنه علي كتفه من الصحفيين والإعلاميين أو يدرك الفارق بين أن تكون الصحافة أداة بناء ووسيلة إيقاظ للوعي وبين أن تنجرف في سباق المصالح الخاصة والأجندات المعادية للوطن والسبق الإعلامي البراجماتي داهساً في طريقة قيمًا وتقاليد عريقة لصاحبة الجلالة. * تذكرت عبارة مأثورة للمفكر الإنجليزي كبلنج تقول ¢ إذا لم تكن لديك قضية تموت من أجلها فلا تستحق حياة وهبها الله لك ¢.. ولا يخفي علينا أن الصحافة المصرية ولدت من رحم قضية كبري هي استقلال الوطن وتعافيه من الجهل والمرض والتخلف. وهي القضية التي حملها أساطير القلم من أمثال أحمد لطفي السيد وشعاره الأثير ¢ مصر للمصريين ¢ والذي جاهدت جريدته ¢ الجريدة ¢ لتحقيقه في وجه الاحتلال البريطاني والتركي. تماماً كما رفعت ¢ العروة الوثقي ¢ التي أنشأها المفكران العظيمان جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام محمد عبده. شعاراً آخر هو ¢ التنوير ¢ إيقاظاً للشعوب العربية والإسلامية. ودفعها علي طريق التحرر والخلاص من الاستعمار.. ولم يكن ¢ لواء مصطفي كامل بعيداً عن هذا المسلك الحضاري لسابقيه. بل كان نبراساً أضاء لمصر طريق الحرية والنهوض والوطنية والاستقلال. * لم تغب عن صحافة هؤلاء الرواد قضية الوطن. بل قاتلوا في صفوف الجماهير. وتساقط منهم ضحايا لأجل رسالة وقضية وهبوا أنفسهم لها طواعية بلا انتظار لمكاسب زائلة. ولا تحقيق لمجد شخصي زائف.. فالكل يفني ويبقي الوطن. عاني الأفغاني ومحمد عبده ويعقوب صنوع آلام النفي. كما دخل النديم والعقاد وغيرهما السجون والمعتقلات دفاعاً عن الرأي. وذودًا عن حرية الوطن.. فما وهنوا وما استكانوا.. ولا انتظروا مكاسب شخصية بل كانت رسالة القلم هي محركهم. دينهم وديدنهم.. وهكذا كانت صحافة الزمن الجميل محرابًا للتنوير وحصنًا للوطنية قبل أن تنفتح آفاق التطور الإلكتروني عن تقدم تقني مذهل. صادفه تراجع مهني وتردي قيمي. وضعف في مقومات الريادة.. فانفلت الزمام وغدونا نري جحافل من الصحفيين والإعلاميين يطلون علينا من نوافذ إعلامية شتي أكثر عددًا وأقل أثرًا ووزنًا.. حضرت السبوبة وغابت الرسالة» فلا نجد قضية ولا توافقًا إعلاميًا حول أولويات الوطن.. بل تداهمنا أجندات متفرقات وأغراض متقاطعات وحسابات متناقضات.. اختلفوا حول الوطن إلا ما رحم ربي.. وليس علي أرضيته.. ولاوفق مصالحه العليا وأولوياته. * وربما لا تدرك طائفة كبيرة من صحفيين وإعلامي اليوم من الأجيال الجديدة كم عانت صحافة الماضي لتصنع صورة ذهنية محترمة في أذهان الجماهير ووجدانهم وتحول نظرتهم الدونية المحتقرة لتلك المهنة إلي إجلال واحترام.. ولا كيف جاهدت الجماعة الصحفية الأولي لإنشاء نقابة الصحفيين لتصبح حامية للرأي. مدافعة عن الحريات يعتصم بها كل ذي مظلمة حتي آلت اليوم إلي أعداد هائلة اكتسبت كثير منهم عضويتها في ظروف ملتبسة وبطريقة ملتوية غير مهنية في غيبة الضوابط والمعايير..!! * تحولت الصحافة عبر تضحيات كبيرة وعرق ودماء ونضال طويل ضد الفساد تارة وضد الاستعمار تارة ثانية وضد أنظمة الحكم المتعاقبة تارة أخري لا نتزاع حرية الرأي والكلمة إلي مهنة صاحبة الجلالة.. ونال ¢ الجورنالجي ¢ وهو اللقب الذي كان يطلق علي كل من يمتهن الصحافة أخيراً حقه من الإكبار والإجلال وسط مجتمعه.. لكن هل حافظ الصحفيون جلهم أو بعضهم علي هذا السجل المشرف من الكفاح والاحترام.. أم تراجع هذا التقدير المجتمعي وتوجهت أصابع الاتهام للإعلام والصحافة خصوصًا بعد ثورة يناير. بالتسبب في البلبلة وتراجع منظومة القيم وانحراف المسار. والتهافت في التناول الإعلامي لما يجري.. والإغراق في توافه الأمور والانصراف عن قضايا الوطن وهمومه وأولوياته. واحتياجه للتوعية وفضح المؤامرات..!! * أتصور أن تقدير الجمهور للصحافة والإعلام اليوم بات محل شك كبير» فبعض الصحف والصحفيين والإعلاميين تخلوا عن القضية والرسالة. وصارت المسألة عندهم مجرد ¢ أكل عيش ¢ ولا عجب أن تغيب عن أذهانهم وأقلامهم أولويات مثل التثقيف والتنوير ومحاربة التطرف والإرهاب. ومشكلات الجماهير وأوجاعها وتحديات الوطن وآلامه. فأداروها معارك غارقة في توافه الأمور والغوغائية وتصفية الحسابات حتي وصل الأمر إلي تلاسن بعضهم بعضًا دون رادعي من ضمير ولا رقيب من نقابة!! * ولا عجب أن يقل المبدعون في حقل الإعلام والصحافة علي كثرة المنتسبين إليهما حتي صارت مهنة من لا مهنة له. وتراجعت المهنية والإجادة والمصداقية» وهو ما تسبب ضمن عوامل أخري في تراجع توزيع الصحف اليومية المطبوعة إلي أقل من مليون نسخة يومياً وهو الرقم الذي جاوزته جريدة ¢ الجمهورية ¢ وحدها قبل عدة سنوات. * ولم يكن مصطفي النحاس يبالغ حين فاخر بأن ¢ الوفد¢ هو حزب روزاليوسف ردًا علي ما أشاعه خصومه من الأحزاب بأن هذا الحزب التاريخي الأكثر شعبية وقتها هو مجرد جريدة تحمل اسم روزاليوسف.. لكن هل يمكن لرئيس أي من الأحزاب الحالية التي صاربعضها بالفعل مجرد صحيفة أن يفاخر كما فاخر النحاس باشا بجريدته.. أم أن تراجع الصحافة وتخلي بعضها عن قضايا الشعب. وتفرغها للهجوم وتلويث السمعة وهتك الخصوصيات وإشاعة الفوضي وتشويش الأذهان جعل مثل هذه المفاخرة ضربًا من الخيال. * لم تسلم الصحف القومية هي الأخري من بعض الآفات حين اختارت أن تسير في اتجاه معاكس لصحف المعارضة وتجاريها في الإثارة والتراشق وملاحقة المعارضين بالهجوم والاستهزاء دونما التزام بالنقد الموضوعي البناء وصولاً للحقيقة. تنقية جداول الصحفيين.. مهمة النقيب القادم * ولا يخالجني شك أن الكثرة التي احتلت مواقعها في بلاط صاحبة الجلالة في السنوات الأخيرة كانت وبالاً علي المهنة. في ظل غياب التدريب والتقويم وتناقل الخبرات وضعف الوازع الأخلاقي لدي البعض. وتراجع قيم مهنية أصيلة تحت أقدام المنافسة الشرسة والتسارع التقني لوسائل الإعلام.. كل ذلك كان وبالاً علي المهنة. حيث كثر الدخلاء المتسلقون حبال المعارضة للدخول لصاحبة الجلالة بما تحمله من إغواء بالشهرة وذيوع الصيت دونما تأهيل علمي أو أخلاقي مناسب وعجز النقابة عن إيقاف هذا الزحف التتري من الملتحقين بالمهنة الراغبين في اكتساب عضويتها النقاب حتي قارب عددهم اليوم العشرة آلاف. خصوصًا من أبواب صحف المعارضة والخاصة التي سمح بعضها بدخول أعضاء للنقابة بإملاءات وشروط غير مهنية وهو ما انعكس في تجاوزات غير أخلاقية تنتهك حرمة المهنة وتقاليدها العريقة التي أرساها رواد مبدعون ذوو ضمائر حية ونفوس سوية عبر تاريخ طويل من النضال المرير. * كما لعبت المحسوبية دورها في وصول أشخاص يفتقدون المقومات اللازمة للممارسة المهنية والحصول علي استحقاقاتها خاصة في بعض الصحف الممولة من رجال أعمال سخروها لخدمة أجنداتهم ومصالحهم. دون الالتزام بمعايير شفافة لضم أمثال هؤلاء لبلاط صاحبة الجلالة. وهذا سبب آخر لما نراه من فوضي إعلامية. * وما حدث في الصحف الخاصة حدث في الفضائيات التي جذبت نجوم الكرة والفنانين للعمل بها لتحقيق أعلي نسب مشاهدة دون أن يكون هؤلاء مؤهلين لمهنة ¢ مذيع ¢ فهبطت لغة الحوار وغرقت الشاشات في صراخ وسباب وشتائم وتحولت لأداة تحريض وفتنة.. ألقت بظلال سلبية علي المهنة وسمعتها الأمر الذي يستلزم وقفة لمنع مزيد من التدهور لاستعادة ريادتنا الإعلامية المفقودة ووقف تلك المهازل الأخلاقية التي تقود المجتمع للسقوط في فوضي التردي والانحلال!! * نهيب بنقيب الصحفيين القادم أن يجعل تنقية الجداول الصحفية من الدخلاء علي رأس برنامجه. ووضع ضوابط حاسمة لسد الأبواب الخلفية لدخول النقابة وإدارة حوار مجتمعي موسع لوضع كود أخلاقي للمهنة يصونها من العبث ويحفظها من الانهيار. * كما أن الأجهزة المعنية بالصحافة والإعلام مدعوة هي الأخري لعقد مؤتمر موسع يضم شيوخ المهنة وممثليها لحماية القيم والأخلاق وإصلاح المهنة وإعادة الاعتبار لتقاليدها العريقة حتي تعود الصحافة كما بدأت مهنة المفكرين والأدباء وليست مهنة من لا عمل له.. أوقفوا هذه المهزلة قبل فوات الأوان..!!