كان أستاذنا الدكتور عثمان أمين رحمه الله. يدرس لنا الفلسفة في الكلية.. وفي كل محاضرة كان يقول لنا: "اقروا الجوانية".. ولم نكن نعرف معني "الجوانية".. بل لم نكن نعرف أستاذنا الراحل حق المعرفة ولم نكن أيضاً نقدره حق قدره.. وعاش الدكتور عثمان أمين ومات ضحية التواضع وإنكار الذات.. لم يكن الرجل يجيد الدعاية لنفسه ولمذهبه الفلسفي.. كان عملاقاً جعله سوء التسويق قزماً.. بينما جعل حسن التسويق من الأقزام عماليق. وجعل النكرات معارف.. كل الذين حملتهم مصر علي الأعناق أحياء وميتين. أحسنوا التسويق والدعاية لأنفسهم. بينما هم لا يساوون جناح بعوضة.. وكل الذين داستهم الأقدام وتاهوا في الزحام وسقطوا من الذاكرة.. عباقرة وعمالقة لم يحسنوا الدعاية لأنفسهم. فصارت قُبَّتهم حَبَّة.. بينما حَبَّة النكرات الذين أجادوا الدعاية صارت قُبَّة. وأما مذهب الجوانية. فملخصه أنه لا يوجد شيء حقيقي خارج أعماقنا ووجداننا.. وأن الجوانية تعطي البرانية معناها وقيمتها. بمعني أن العيد في وجدانك "وجواك".. وإذا لم يكن "جواك" عيد فلن يجدي معك ألف عيد "براك".. وهذا المذهب عبَّر عنه شاعر المهجر إيليا أبوماضي بقوله: والذي نفسه بغير جمال.. لا يري في الوجود شيئاً جميلاً كما عبر عنه عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بقوله: وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. ولكن عين السخط تبدي المساويا.. أي "المساوئ". ومدح رجل رجلاً آخر. ثم بعد قليل ذمه.. وسُئل في ذلك فقال: أراني الرضا محاسنه فمدحته بها.. وأراني السخط مساوئه فهجوته بها.. فأنت تمدح بما في "جواك".. وتقدح بما في "جواك".. ويقال إن الجوع أمهر الطباخين.. أي أن الطعام العادي يجعله الجوع أشهي طعام في الدنيا.. والطعام الشهي يجعله الشبع والتخمة سيئاً.. أنت تقبل علي الأمر بما في "جواك".. وتُدْبِر عنه بما في "جواك".. ويكون الأمر واحداً فأراه أنا عكس ما تراه أنت.. والخلاف بيننا خلاف "جواني" وليس خلافاً "برانياً".. ويقال إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يري الشيء بما يريده هو.. لا بما الشيء عليه.. ومَن صَلُحَ "جوانيه".. صَلُحَ "برانيه".. ومَن فَسَدَ "جوانيه".. فَسَدَ "برانيه". ونقول في مثلنا العامي: "جوه وبره فرشتلك وأنت مايل وإيه يعدلك؟!". وحواسنا الخمس مرايا لقلوبنا ووجداننا.. فهي لا تعمل بذاتها. ولكنها تعمل بأوامر الوجدان والقلب.. وتعكس ما يأمران به.. فنحن نري ونسمع ونشم ونتذوق ونلمس بما في قلوبنا.. وقد ورد ذلك المعني في حديث لرسول الله "صلي الله عليه وسلم": "إن الله لا ينظر إلي صوركم وأجسامكم. ولكن ينظر إلي قلوبكم التقوي ها هنا وأشار إلي قلبه" "صلي الله عليه وسلم".. ويقول الله تبارك وتعالي في كتابه العزيز: "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور".. ولا يقولن أحدكم إن هذا مجاز. أو استعارة أو كناية. أو أي صورة بلاغية.. ولكنه حق مثل ما أنكم تنطقون. وانطلاقاً من مذهب الجوانية فإنه لا شهادة لمن لم يشهد قلبه.. ولا صلاة لمن لم يصل قلبه.. ولا صوم ولا زكاة ولا حج لمن لم يفعل ذلك قلبه.. وكم من مُصَلّي يضرب وجهه بصلاته يوم القيامة.. وكم من حاج يلبي فيقال له: لا لبيك ولا سعديك. وحجك مردود عليك. ونحن قوم "برانيون".. و"البراني" عندنا يقال أيضاً عن العملة الرديئة والمزيفة. "قرش براني.. وجنيه براني".. ولأننا قوم برانيون فإننا نحكم بالمظاهر والظواهر.. والبرانية تجعلنا قوماً سطحيين. يسهل خداعنا والضحك علينا "بشوية إعلانات ودعاية وبكش".. وكلما ازداد الجهل والحماقة ازداد الإنسان برانية وسطحية. وقَصُرَ نظره وراح يخبط في الأمور خبط عشواء الليل. ولا يقدر العواقب ولا يري أبعد من تحت قدميه.. والبرانيون منافقون يعلمون ظاهراً في كل شيء.. ويصدق فيهم قول كعب بن زهير عن حبيبته سعاد: فما تقوم علي حال تكون بها.. كما تلون في أثوابها الغول ولا تمسك بالعهد الذي زعمت.. إلا كما يمسك الماء الغرابيل كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً.. وما مواعيدها إلا الأباطيل * * * * والبراني متقلب المزاج.. اتخذ إلهه هواه. فأضله عن السبيل.. لا أمان له.. ولا خوف منه لأنه منافق.. لا يدوم له رضا ولا يدوم له سخط.. فهو كالمنافقين علي عهد رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "يلمزك في الصدقات فإذا أعطي منها رضي. وإذا لم يعط منها فإذا هو ساخط غاضب". والمصريون في معظمهم برانيون.. لذلك قلت لكم يا أصدقائي: محمود محمد مسلم من نجيلة بئر العبد شمال سيناء والمهندس إسماعيل العوضي ولمياء الجديدة وخميس السروجي وسعد نبيه صابر وحمادة بدران أبودوح.. إن إجماعنا علي باطل لأنه إجماع علي "البراني".. ولا خير فيمن نعطيه النجومية. بل الخير كل الخير فيمن ننزع منه النجومية.. ترانا مثل الذين لهم عيون. ولكن لا يبصرون بها ولهم آذان. ولكن لا يسمعون بها.. ولهم قلوب. ولكن لا يفقهون بها.. فإذا رأيت نفسك نجم النجوم في وطني فاحزن لأن من لا يملك أعطي من لا يستحق.. وقومك برانيون وليسوا جوانيين.. فهم لا يملكون الحكم الصحيح وأنت لا تستحق ما أعطوك إياه.. وإذا رأيت نفسك مهمشاً قد انحسرت عنك الأضواء فثق بنفسك لأنك تستحق النجومية. ولكن قومك لا يفقهون.. البرانيون إذا رفعوا أمراً فاعلم أنه وضيع. وإذا وضعوا أمراً فاعلم أنه رفيع القدر.. البرانيون يعزون الذليل ويذلون العزيز.. ويخدعهم المقت الكبير.. أي أن يقول الناس ما لا يفعلون. البرانيون لا تعنيهم الأفعال. ولكن تعنيهم الأقوال.. وكل الذين خلدناهم ورفعناهم مكاناً علياً توارثنا أقوالهم ولم نعرف لهم أفعالاً.. فنحن أمة الأقوال المأثورة ولا علاقة لنا بالأفعال المأثورة والإنجازات المأثورة.. كل الذين حملناهم علي الأعناق قوالون وخطباء وحكماء لسان وقلم.. لكنهم ليسوا أبداً فعالين ولا منجزين ولا حكماء عمل.. وكل ما احتفظنا به في الذاكرة ليس سوي أقوال الزعماء الخالدين المأثورة.. وأقوال المفكرين والمبدعين العظماء.. العظمة عندنا عظمة كلام.. عظمة أقلام.. "عظمة بُق".. والإنجاز إنجاز "بُق".. والخلود "خلود بُق".. والمشاريع والخطط والصحوة والنهضة كلها "بُق".. ويتناوب حكامنا الضحك علينا لأننا قوم برانيون.. ولأننا برانيون تشابه البقر علينا.. وتشابه البشر أيضاً علينا.. ونقول: "احنا لينا الظاهر".. ونقول في مثلنا العامي: "امشي معرَّش ولا تمشي مكرَّش".. أي اجعل زيك أنيقاً ومظهرك جذاباً ولا يهم أن يكون بطنك خاوياً.. البس واتشيِّك".. ولا تاكل ولا تشرب.. وساعتها سيقال إنك أغني الأغنياء وسيحترمك الناس و"أنت كحيان ومش لاقي تاكل". ولأننا برانيون فإننا شهود زور.. الجاني من شهدنا له.. والمجني عليه من شهدنا عليه.. و"ياما في سجوننا مظاليم".. و"ياما في خارج سجوننا مجرمون عُتاة".. ومن أكبر الكبائر شهادة الزور.. وقد قال رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "ألا وشهادة الزور".. قالها ثلاثاً.. ومن صفات عباد الرحمن الذين يُجزَون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً أنهم لا يشهدون الزور".. و"الذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً".. وشهادة الزور ليست فقط في المحاكم. ولكنها أوسع من ذلك بكثير. فقد اجتاحت كل المجالات.. الإعلاميون والصحفيون شهود زور.. والفنانون شهود زور.. والساسة شهود زور.. والدعاة والعلماء والقساوسة شهود زور.. والثوار شهود زور.. والحكام والمسئولون والوزراء والجماعات والتيارات والأحزاب والائتلافات شهود زور.. "زمان كانت شهادة المشخصاتية "الممثلين".. والجورنالجية "الصحفيين"" لا يؤخذ بها في المحاكم. ولا تقبل ولا يعترف بها.. وهذا ليس تحقيراً من شأنهم كما يزعمون ولكن لأنهم قادرون علي قلب الحقائق.. فالمشخصاتي يقنعك وهو يؤدي دور الخير. بينما هو شرير. ويقنعك في دور الشرير. بينما هو خيِّر وطيب.. والجورنالجي أو الصحفي يكتب كأنه ملاك أو نبي. بينما هو شيطان رجيم.. يكتب لك عن الفضيلة وهو يمارس الرذيلة.. يكتب لك عن الحب بينما هو حقود.. يكتب لك عن الوضوح والصراحة والشفافية. بينما هو "زُمبَجي.. ودساس ووسواس خناس"!! * * * * 1⁄4 هؤلاء فعلاً لا ينبغي أن تُقبل لهم شهادة أبداً.. لأنهم بارعون في تقمص أدوار تناقض طبيعتهم.. ولو ظلت هذه القاعدة سارية لانضم إلي الذين لا تُقبل شهادتهم إعلاميو ومحللو الفضائيات وميليشيات المواقع الإلكترونية.. هؤلاء جميعاً يجب أن ترد شهادتهم في المحاكم والسياسة وكافة المجالات لأنهم شهود زور.. هؤلاء بارعون في إخفاء ظلام وجدانهم بأضواء ألسنتهم وأقلامهم وخطبهم وتحليلاتهم. والمجتمع كله سيطر عليه شهود الزور وتحكموا في كل مفاصله وأطبقوا علي رقبته. فلا فكاك له منهم لأن مجتمعنا "براني" يسهل خداعه والنصب عليه "بالبُق".. "احنا بنقضيها كلام".. ولا أحد يسألك عن فعلك.. "أنا سمعت في الراديو.. أنا شفت في التليفزيون.. أنا قريت في الجورنال".. لا أحد يمحص أو يحلل أو يعيد النظر أو يتأمل.. ولأننا قوم برانيون صارت عقولنا مالاً سائباً تسهل سرقته.. فنحن مضحوك علي عقولنا. ومضحوك علي ذقوننا بذقونهم.. "حلقولنا.. ونفضولنا". والبرانيون قوم شفاهيون أو شفويون.. وحياتنا كلها شفوية أو شفاهية. وليس فيها أي شيء تحريري.. وشعبنا ينخدع ويقتنع بالشفاهة.. لذلك تنطلي عليه الوعود ويصدق الأكاذيب.. فإذا قيل له إن لون الذئب الذي أكل يوسف كان أحمر أو أخضر يصدق. رغم أنه يعلم تماماً أن الذئب لم يأكل يوسف.. الذئب لم يأكل يوسف. لكن شعبنا يأكل "الأونطة".. وإذا تجرأ أحدهم علي مولانا الشيخ وقال له يا مولانا إن الذئب لم يأكل يوسف.. يقول له مولانا: لقد نسيت.. وأردت أن أقول إن الذئب الذي لم يأكل يوسف كان لونه أحمر أو أخضر.. جل من لا يسهو.. فيقول الناس: الله.. الله يا سيدنا.. "لا فُضَّ فوك.. الله يفتح عليك". وكان الشاعر الراحل نجيب سرور الذي لا يعرفه أحد من شعبنا البراني إلا القليل يقول: قال الشيخ: الشخبول علي الحائط.. فسأله أحد الجالسين في حضرته: مولانا.. ما معني الحائط.. أي أن السائل لم يجرؤ علي سؤال الشيخ عن معني الشخبول. فسأله عن الحائط.. والمهم أن الشيخ أعجبه السؤال. وأشاد بالسائل الذي سأل عن أمر عظيم. نحن قوم برانيون. لذلك امتلأ مجتمعنا بشهود الزور.. وعندما تصبح في "ملقف شهود زور" فلا تنتظر العدل ولا العيش ولا الحرية ولا العدالة الاجتماعية ولا الكرامة الإنسانية.. لا تنتظر ديمقراطية ولا حُكماً رشيداً. ولا انتخابات نزيهة. ولا دستوراً لكل المصريين.. ولا تعلق أملاً علي تأسيسية أولي ولا تأسيسية ثانية. ولا ثالثة.. عندما يكثر في الوطن شهود الزور و"حركات الشفايف والأقلام" لا تنتظر أي حل سوي "حل الوسط".. انخدعنا في الفلول. وانخدعنا في الثوار. وانخدعنا من الليبراليين. ومن الإسلاميين.. "العركة" في القاعات المكيفة. بينما الناس يتقاتلون علي العيش والبنزين. ويفقدون في سبيلهما الكرامة والحرية.. وعندما نكون مجتمعاً برانياً شفاهياً.. تصبح قلة الشيء خيراً من وجوده.. قلة الدستور أفضل من الدستور.. غياب المسئولين خير من حضورهم.. لا أحد في مصر الآن يريد دستوراً ولا قوانين ولا مائة يوم ولا ألف يوم. ولا صحوة ولا نهضة.. ولا أحد حتي معني بالوطن وما يتهدده من كوارث علي حدوده.. لقد نجح حكامنا ومازالوا يواصلون النجاح علي مر المواسم والعهود في حبسنا داخل بطوننا وفروجنا وحياتنا اليومية التعيسة.. انكفأ المصريون بفعل فاعل علي ذواتهم وخواء بطونهم وجيوبهم. وكل قادم يظنونه موسي "يطلع فرعون" ألعن وأضل سبيلاً.. ومازال المصريون رغم تجاربهم المريرة ينخدعون بالبرانيين والقوالين والخطباء.. والشفاهيين.. مازال المصريون وسيظلون يعتقدون أن بحر القوالين والخطباء طحينة. وأن فسيخهم شربات.. وأن موتهم صحوة. وفنكوشهم نهضة.. ولا يريدون أن يفهموا أن تدينهم منظرة.. وليبراليتهم "بُق".. سيظل وطننا هكذا برانياً مظهرياً.. "من بره وردة.. ومن جوه خُردة"!! نظرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن السيدة عاشة رضي الله عنها قالت: رحم الله لُبيداً.. كان يقول: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم.. وبقيت في خلف كجلد الأجرب.. فكيف لو أبصر زماننا هذا؟!.. فقال عروة: ونحن نقول: رحم الله عائشة.. فكيف لو أدركت زماننا هذا؟!.. وقال أبوالدرداء رضي الله عنه : "كان الناس ورقاً لا شوك فيه. فصاروا شوكاً لا ورق فيه". .. وقال ابن أبي حازم: قد يلوث الناس طراً .. لم أجد في الناس حراً صار حلو الناس في العين إذا ما ذِيقَ مُراً وقال: وقالوا لو مدحت فتي كريماً.. فقلت وكيف لي بفتي كريم .. وقال أبوالعتاهية: أري قوماً وجوههم حسان.. إذا كانت حوائجهم إلينا وإن كانت حوائجنا إليهم.. يقبح حسن أوجههم علينا وقال الشاعر الذي لا أذكر مَن هو: أيا دهرُ إن كُنتَ عاديتنا.. فها قد صنعت بنا ما كفاكا جعلت الشرار علينا خياراً.. ووليتنا بعد وجه قفاكا!!