إنه الغروب والشمس بين كفيه يسحبها رويداً رويداً فتختفي أشعتها الأورجوانية، وراءه الأشجار المتشابكة الأغصان التي تتمايل كلما داعبها النسيم فتشرق الشمس المحتجبة وراء الأغصان من جديد في عينها المنداة بالدموع ... تتأمل صورته المعلقة على جدران ذاكرتها فقد كانت تعرف كيف تستبقيه داخلها عندما تلتقي وجهه وسط الزحام... تسمع صمته الذي تجعل منه وسط الضجيج لحنا عذب الكلمات... تتذكر ارتباكها واضطرابها عندما صافحته في الصباح وكيف سرت في جسدها تلك الرجفة عندما لامست أناملها أصابعه، تتحسس يدها وكأنها تدرك لأول مرة أنها جزء منها. تحاول أن تتخفف من أحزان المساء، أن تسقط تلك الأفكار ثقيلة الخطى التي تجعلها حائرة بين شوق وانتظار وخوف... شوق لقلبه الصغير،وانتظار في دربه الطويل، وخوف أن يكون بلا مصير. تمتزج الأفكار ترتطم برأسها تفيض عيناها بعبرات ساخنة تشعر بلسعات لها وهى تنسب على صفحة وجهها، فوحدها كانت تعرف أن أجمل ما فيه أن الحزن محصول كل مواسمه، والفراق حصاد كل خطواته،وأنها ستتساقط مثله كأوراق خريف يمتد كالأيام. إنه غنوة عابرة بين كلماتها يمطر الشتاء دموعه الصامتة، تصغر فيها الدنيا ليحتويها قلبها، غنوة ستظل تسمع لحنها من بعيد يتردد في أعماقها مهما تهاوت السنون، وكأنه حلم تقبع خلف بابه ترقب خطاه القادم نحوها ولكن الخطو ناءٍ يتسرب في الأمس الحزين . إن أسوأ ما في الحب أنه يُفقدك السيطرة على نفسك التي تخرج عن فلكها لتسبح في فلك نفس أخرى. فكل ما بينها وبينه ظل ممدد لوجهين متقابلين من ألف عام والصمت جدار يوارى العيون ويكبل الشفاه بقيد السكون. بدأ داخلها يستعر يتحلل يذوب عندما رأت نفسها لوحة زيتية قديمة رسمها بالكلمات لا بالألوان فقد رآها وزخات الدمع تنهمر وكأنها شجرة عارية وحيدة وسط المطر والليل والريح فوقف عاجزاً أمام حزنها الذي يمتد إلى نفسه فتكسوها تلك السحابات التي تمطر في عينيها وهو لا يملك إلا الانتظار بداخلها... إلا الصمت والسكون تحت الأمطار... وقد ذاب الكلام في حُسن عينيها الممزوج بالحزن والريح والأمطار. من حينها وهى تريد أن تطلق مشاعرها الحبيسة وراء هذا السياج الذي نسجه داخلها الخوف فحدود عالمها تبدأ منه وتنتهي إليه. إنها معه ستظل مسافرة في المسافات التي تتولد من المسافات. تائهة في دروب لوعته وهو يعانق شوقها في الأفق الممتد البعيد.