مازلت أذكر تلك الأمسية الرائعة كأنها حدثت بالأمس فقط، ومازلت كلما مررت علي ميدان التحرير.. أتوقف لحظات.. أسرح فيها بخيالي، وكأنني موشك فعلاً علي معايشة أخري لأحداث تلك الأمسية. أذكر أن هذه الأمسية كانت مع نهاية فصل الخريف، وكنت قد فكرت أن أعطي موعداً لحبيبتي قبالة »الهيلتون« ولكن عندما تذكرت أنه سيصبح أمراً مستنكراً مني أن أقابلها أمام الفندق الكبير، ولا أدعوها إلي الكافتيريا الفخمة بطلباتها الغالية.. قلت لها: - ليكن موعدنا أمام قاعدة التمثال القائمة وسط الميدان. في تمام الرابعة كما اتفقنا ظهرت.. أكاد أشم رائحة عطرها من قبل أن تعطيني يدها.. شعرت بالزهو وأنا أراها أكثر جمالاً من أي مرة قابلتها فيها، وهي ترتدي فستاناً أزرق به نقط بيضاء متناثرة، وعقداً من الأصداف البحرية يتدلي فوق صدرها.. قلت لها: - لم أكن أحسب أنك بمثل هذا الجمال والروعة. تألق البريق في عينيها، وارتسمت بسمة علي شفتيها، وأنا أحتضن كفها الأيمن: - أريد أن أمشي معك في شوارع القاهرة كلها. ابتدأنا نخطو لنجتاز الميدان.. متجهين إلي كوبري قصر النيل.. حينما صاحت فجأة، وهي تنبهني بلكزة من مرفقها: - انظر.. إنه مطربنا الكبير ينزل من عربته. لابد أنه سمعها، فقد ابتسم وهو يحيينا بإيماءة من رأسه. اقتربت منه بفرح طفولي وقد أخذتها المفاجأة: - إننا نعشق أغانيك، فهي تجعلنا نحلق بأجنحة خيالية، ونسبح في بحر الحب ولا نغرق. اتسعت ابتسامته وهو يقول لنا: - جئت هنا لأغني لكم، ولكل الأحباء والمحبين.. نرقص ونغني، ونملأ الميدان كله بأحلامنا. ردت بنبرة غير مصدقة: - وهل هذا معقول؟ إن المارين لم يلحظوك بعد، وعندما يشاهدونك سيلتفون حولك، ويمتلئ الميدان عن آخره! سألته: - هل هو مشهد في فيلم سينمائي؟ رد وهو يشير إلي المخرج والعمال الذين بدأوا في إنزال آلات التصوير. - ونريد أن يكون طبيعياً تماماً. ابتدأ المارة يتوقفون ويلتفون حولنا.. بعد أن تعرفوا علي مطربهم المحبوب، وهو يحييهم ويبتسم لهم.. ثم أمسك بالميكروفون وأخذ يتحدث، وإذا بصوته يتردد عبر عديد من مكبرات الصوت غير المرئية، والتي يبدو أنها ثبتت في أرجاء الميدان: - صدقوني عندما أقول لكم أن الغناء الحقيقي لا يكون داخل الاستوديوهات، أو في الحجرات المغلقة، ولا حتي في المسارح التي لا يرتادها سوي القادرين، ولكن الطرب الحقيقي عندما نغني ببساطة وتلقائية وبدون تكلف. بدأت أفواج طلبة وطالبات الجامعة في الظهور، وقد أسرعوا في خطواتهم بعد أن أحسوا بأن هناك شيئاً غريباً يجري حدوثه في الميدان الكبير، وجميل جداً أن تراهم وهم سائرون، ويمكنك أن تخمن إلي أي كلية ينتمون، فهذا يمسك بمسطرته الهندسية، وتلك تحتضن بالطو أبيض، وشلة أخري تمشي متلاصقة، وفي يد كل واحدة لوحة خشبية وعلبة ألوان زيتية، والكل منشغل في الحديث والتساؤل عن هذا الشيء غير العادي، والذي يجري حدوثه حول قاعدة التمثال. وما إن امتلأ الميدان عن آخره، حتي انطلق صوت المطرب وهو يشدو بأشهر أغانيه: مصر النسيم في الليالي وبياعين الفل ومرايه بهتانه ع القهوه ازورها واطل القي النديم طل من مطرح ما أنا طليت والقاها برواز معلق عندنا في البيت سبح الميدان كله في صمت وسكون.. لكن ما إن انتهي المطرب من أداء المقطع الأول.. حتي توقف عن الغناء وقال بصوته الرخيم: - متعتي الحقيقية أن تشاركوني الغناء، فالصوت المنفرد الواحد، لا يكتمل إلا بوجود أصوات من حوله، تبرز جماله وتضيف إليه. تفرقت الجموع، واتخذت أماكنها فوق العشب الأخضر، وحول قاعدة التمثال وأخذوا يرددون: ومصر فوق الڤراندة واسمها چولييت ولما جيت بعد روميو بربع قرن بكيت ومسحت دمعي في كمي ومن ساعتها وعيت علي اسم مصر.. البعض يصفق علي الواحدة، ومجموعة من الشباب والفتيات أمسكوا بأيدي بعضهم وأخذوا يرقصون علي إيقاعات اللحن. وما إن انتهت الأغنية، وكانت الشمس قد غربت تماماً، وابتدأت الكشافات القوية تسلط أضواءها علي الميدان، حتي فوجئت الجموع بشاب يتسلق قاعدة التمثال في خفة ورشاقة، ووقف فارداً كلتا يديه وكأنه يحيي الجماهير المحتشدة، ورغم بعض صيحات الاستنكار، التي طالبت بإسكاته وإنزاله، إلا أن الأضواء الكاشفة ما لبثت أن تركزت عليه، والميكروفونات المعلقة اقتربت منه، فأشار إليهم بالسكوت لحظة.. ثم صاح بصوت عميق: - نحن لا نريد أن نكون »كومبارس« في مشهد لفيلم سينمائي، ولانريد أحداً يغني لنا، نحن الذين نؤلف ونلحن ونشدو بأصواتنا: كأني نسمة فوق الروابي م البحر جايه تغرق في سحرك كأني صوت النديم في ليلك بيصحي ناسك يشدوا حيلك.. في لحظات، تحولت صيحات الغضب والاستنكار إلي تصفيق وتشجيع، بل إن الكثيرين رغبة منهم في الظهور، بدأوا يتسلقون قاعدة التمثال. أما هو ففور انتهائه من أغنيته نزل في هدوء، فاحتضنته مجموعة من الشباب التفوا حوله وأخذوا يرددون معه بعض الأغنيات. تحول الميدان بعدها إلي مهرجان للرقصات والأغنيات الشعبية.. كل مجموعة متجانسة التفت حول شاب وأخذت تردد وراءه المواويل الصعيدية، والأهازيج الريفية، وأغاني البمبوطية. ولأول مرة.. أشعر بهذا الشيء الذي يسمونه الاندماج إلي حد الذوبان.. منتبه تماما لعيون حبيبتي، ولشفتيها وهي تغني، ويدها وهي تحتضن يدي، وفي نفس الوقت أشعر بكل فتاة وكأنها حبيبتي، وبكل شاب يرقص في منتهي المرح والخفة، وكأنه أنا وقد تخلي عن وقاره وخلع عنه رداء التكلف، وعاد إلي طبيعته الأولي، حيث لا خجل، لا عقد تحكم في تصرفاته. وفي لحظات قليلة، كنت أتوقف لأفكر، كيف استطعت أن اندمج في هذه الجموع الراقصة.. وأنا عمري ما رقصت أو غنيت: كأني طوبه من بيت في حاره كأني دمعة في عيون سهاري كأني نجمة فوق الفناره تهدي الحياري والبدر غايب مع خيوط الفجر الأولي، وكانت مشاعرنا قد بلغت ذروتها.. انصتنا إلي مجموعة من الشباب.. تغني لحناً بدأ هادئاً رقيقاً.. كأنه زقزقة عصافير، ممتزجة بوشوشات أغصان، ورقرقة ميان، ما لبث أن تحول إلي أنغام خافته.. أخذت تعلو وتعلو، وكأنها تريد أن تصعد بنا إلي أعلي السموات. كان اللحن بسيطاً وجميلاً ورائعاً، وبشعور تلقائي كان كل من في الميدان يشترك في ترديد كلمات الأغنية التي لم نعرف من الذي ألفها أو لحنها أو ابتدأ في شدوها. وما أروع أن تقف وسط الجموع، لتشاهد شروق الشمس وآشعتها الذهبية وهي تنتشر لتجلل الميدان. كانت جموعنا تفترق كل في طريق، وأصداء هذا اللحن الرائع مازال يتردد في قلوبنا وأسماعنا. أمسكت بيد حبيبتي، وقلت لها في فخر: - هل تذكرين؟ لقد كنت أول من شاهد مطربنا المحبوب. قالت، وكأنها تذكرت شيئاً نسيناه: - الغريب أننا في غمرة انفعالنا، لم نعد نسأل عنه.. مع أنه كان له الفضل في تجميعنا وياتري هل ظل معنا؟ أم انسحب في هدوء بعد أن أدي دوره. قلت لها باسماً: - المهم.. ان الجميع احتفلوا بموعد لقائنا! ونحن نعبر كوبري قصر النيل، عدت أنظر إليها.. بدأت لي لحظتها شامخة مترفعة وأجمل من أي وقت مضي.. اعتراني خاطر مفاجئ.. بأنني مهما بحثت فلن أجد لها مثيلاً في العالم كله، وأن وجهها لا يصلح لأن يكون لوحة فريدة التكوين. تجمعت ذكريات الماضي، ووقع الحاضر، ورؤي المستقبل.. تذكرت سنوات الدراسة عندما كانت تجلس بجواري في المدرجات نتبادل المذكرات، ونختلف في الآراء، ونتنافس في عناد للحصول علي أعلي الدرجات. ورأيت الحاضر وهو يتبلور في لقاء عابر.. أو ونحن نطوف في شوارع المدينة المزدحمة، ونغوص في إحباطات حياتنا اليومية. ولكني أشهد.. انني ما رأيت المستقبل بكل روعته وبهائه إلا في هذه الليلة التي لا تنسي. ولذلك، فكلما مررت علي ميدان التحرير أتوقف لحظات.. أسرح فيها بخيالي.. وكأنني موشك فعلاً علي معايشة أخري لأحداث تلك الأمسية الرائعة. الأشعار لصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم