في أواخر السبعينيات ابتدأ هياجنا، وانقسمنا مع الهياج إلي جماعتين: أصوات وإضاءة، كنا قد خرجنا تقريباً من عباءة ندوة سيد حجاب، في نهايات تلك الفترة أصبحت الأرض خالية، (أحمد عبدالمعطي حجازي هارب إلي باريس، وعفيفي مطر هارب إلي بغداد، ورفاقهما الموجودون بالداخل يفتقرون إلي كاريزما الشاعر، والمجلات الثقافية أغلقت، مطالع الثمانينيات غادر صلاح عبدالصبور وسافر سفره الأخير إلي الله ، بعده فعلها أمل دنقل، فيما بينهما انتقل السادات من بيته بشارع كافور الأخشيدي إلي مقبرته بطريق النصر بمدينة نصر، وحل نظام محل نظام، وحكام محل حكام، وترنحنا حتي أننا كنا طوال الثمانينيات نعاني من تلك اللعبة التي خسرنا فيها أكثر مما كسبنا، لعبة المثقف والسلطة، كنا نقترب دون حذر، ونقيم في باب تجارب بمجلة إبداع، ونبتعد دون حذر، وننزوي في الأزقة، ونزهو بالغبار الذي صنعناه، كل من يرانا كان يعطس ثم يمسح وجهه براحة يده، في النصف الثاني من الثمانينيات، كان الجميع يتلقون دعوات الحضور لمهرجان المربد الشعري بالعراق، طائرة خاصة تحمل الذاهبين، والزعيم العراقي يلتقي بهم ويسلم عليهم، حدث ذات مرة أن توقف أمام شاعر، وسأله: ما صورتي في بلدكم، قال له الشاعر: فخامة الرئيس أنا شاعر من جنوب مصر، من الصعيد حيث تغلب الأمية، ومع ذلك فإن كل امرأة أنثي تلد ولداً ذكراً تسميه صدام، دعينا للذهاب مثل غيرنا، ولكننا أنا ومحمد سليمان كنا الأحمقين الوحيدين تقريباً أيامذاك، لم نقبل الدعوة ثلاث سنوات متتالية، وكنا نفخر لأننا نرفض الذهاب إلي بلد يحكمه الديكتاتور وتشيع فيه المذابح، الآن لا أعرف إلي أي حد كان رفضي زهواً، وإلي أي حد كان عقيدة أم أنه كان الاثنين.معاً. في المرة الثالثة ذهب أحمد طه بحجة أنه يريد أن يزور مقابر الطالبيين ويدخل النجف الأشرف وحجته صادقة، وفيها أيضاً ذهب الناقد إبراهيم فتحي، وكان أحد الصقور، ذهاب إبراهيم صار الإجابة علي سؤال: لماذا تذهب؟ الإجابة: لأن إبراهيم فتحي ذهب، حتي ذلك الوقت لم أكن ذهبت إلي مطار قط، في 8891 زار أدونيس القاهرة زيارة علنية سبقتها وعلي مدي سنوات زيارات سرية لم يعلم بها أحد، وتعرف علي الحركة الشعرية المصرية الشابة، وتعرف علينا.. كنت أحبه منذ زمن طويل، وأعلق صورته علي جدار غرفتي، لما التقينا أحببته أكثر، وأمسك يدي وضغطها وعرفت أنه أحبني، في أوائل 98 زار أدونيس القاهرة ثانية وشارك بالقراءة في أمسيات معرض الكتاب، أمسيته ضمت بالإضافة إليه سعدي يوسف وأنا ووليد منير، أعتقد أن أدونيس اختار شركاءه في الأمسية، أيامها كان أدونيس يصدر مجلة مواقف عن دار الساقي بلندن، في خريف 8891 فهرست المجلة اشتمل علي قصائد لأحمد طه ووليد منير وحلمي سالم وأحمد إسماعيل وقصيدة لي، وقصة لسعيد الكفراوي، في شتاء 9891 نشرت المجلة قصيدة أدونيس أحلم وأطيع آية الشمس، كتبها عقب زيارته للقاهرة، وفيها يذكر القمر الآخر الذي يتمدد في عقده من الأجنحة، الكفراوي ومطر: يخلط الذكر بورق الغار وتخلط الأنثي بالورد، الغيطاني: أنا العاشق وسكناي في كبد الحب، اعتدال: الحب الماء الوحيد الذي لا نقدر أن نطفو فوقه، رمضان: كشمس أولي يسطع في المدينة الشعر، وكل خلية في جسد القصيدة بيت كريم، طه: رأسي مليء بمشاة التاريخ ولكل طائر قدماي، ويذكر أولئك الذين اختصوا بتأويل الرؤيا من خبز الذرة، الشعير، الشوفان، وما تيسر من القمح من الباعة المتجولين الغرباء المنتشرين بين مقهي محفوظ ومقهي الغيطاني، الأسماء المذكورة أعلاه هي سعيد الكفراوي، عفيفي مطر، جمال الغيطاني، اعتدال عثمان، عبدالمنعم رمضان، أحمد طه، في ربيع 98 نشرت مجلة مواقف قصة لاعتدال عثمان وقصيدة لمحمد سليمان.
كنا أيامها نملأ الدنيا، بزفيرنا وشهيقنا، الذي هو شهيق شبان طالعين يتحمس لهم البعض، وينفر منهم البعض، ولكن لا يصل الأمر بأحد أن ينفعل ويعلق أسفاره ونشاطاته وعلاقاته وندواته بوجودنا أو عدمه، كنا هواء ساخناً يلفح بعض الوجوه ومن لا يعجبه هواؤنا، يكفيه أن ينسحب إلي الحجرات المكيفة دون أن يفكر في خوض حروب مع غيرنا من أجلنا أو من أجل سوانا، لأننا أيامها كنا أبرياء وهم كانوا كباراً جداً ومتحققين جداً، نحن في نظرهم جيل الغضب الذي لم يكتمل نموه بعد، والذي تلزمه أسمدة كثيرة وأكياس مخصبات. لما زار أدونيس القاهرة والتقيناه، وقرأنا أمامه شعرنا وعاملنا بالمثل وقرأ أمامنا، وأعطيناه قصائدنا لينشرها في مجلته، غضب بعضنا، لأنه لم ينشر لهم، محمد عيد إبراهيم، الذي علق علاقاته بزملائه في الجامعة علي أساس من مواقفهم من أدونيس، يحب من يحبه، ويكره من يكرهه، تحول إلي النقيض، أحس أن أدونيس خذله، في الزيارة التالية، قلت لأدونيس هذا بالتحديد أعني محمد عيد، مرفوض من كل المصريين ومحسوب علي التجربة اللبنانية، وينتظر منك أن تنصفه، فطلب أن آتيه، لا بقصيدة واحدة من شعره، ولكن بمجموعة قصائد ينشرها معاً، وفعل، إلا أن الشاعرة لينا الطيبي كتبت في جريدة الحياة تفضح المصادر التي أخذ عنها محمد عيد بعض قصائده، وظننت أن هذا سيؤثر علي علاقتي بأدونيس، ولكنه وهو الرجل الناضج لم يتأثر، وخاصمت محمد عيد فترة، ثم تصافينا، حتي ذلك الوقت كنت قد نشرت نشراً محدوداً ديواني الحلم ظل الوقت الحلم ظل المسافة، الذي أنكرته فيما بعد كانت بقية قصائدي متفرقة في المجلات والصحف، كنت بلا ديوان تقريباً.
في 9891 احتفل المثقفون العرب والأوروبيون بمرور مائتي سنة علي الثورة الفرنسية، وأقيم الاحتفال في صنعاء، وكان أدونيس رائده الأول، ولعله هو من رشحني للمشاركة في هذه الاحتفالية، ولعله هو من رشح جابر عصفور وعفيفي مطر، الاثنان ذهبا فيما اعتذرت أنا لأن الاحتفالية تزامنت مع العيد الرابع لميلاد ابني، ففضلت البقاء، مازلت لم أركب طائرة بعد، حتي الخامس من فبراير 2991 عيد ميلاد ناريمان، ليلتها ذهبت إلي المطار لأول مرة، كنت مدعواً للمشاركة في المهرجان الأول للشعر العربي الهولندي، سأصاحب الشعراء أدونيس وسعدي يوسف وعبداللطيف اللعبي، وفينوس خوري غاثا من لبنان، ومحمد الأشعري وسيف الرحبي، وربيعة جلطي من الجزائر، ونداء خوري من فلسطين الداخل، لا أذكر من الشعراء الهولنديين سوي الشاعرة جوديث أويوديت هيرزبرج لأنني زاملتها القراءة، قرأت شعري بالهولندية وقرأت شعرها بالعربية، وبعد القراءة مدحت قراءتي وشكرتني وعرضت أن نتواصل ونتراسل، وقالت إنها تقيم نصف عامها في امستردام والنصف الآخر في تل أبيب، وبفجاجة أحس بالندم كلما تذكرتها، انصرفت عنها، كان شعار المهرجان: جسر بين ثقافتين، مكتبة الهجرة بأمستردام هي الجهة المنظمة بالاشتراك مع بعض المؤسسات الرسمية وبإدارة السيد عبدالرزاق الثبيتي لعله السبيطي، وزوجته النشطة السيدة سيمون، ولقد سبق كما علمنا لمكتبة الهجرة أن نظمت سلسلة من مهرجانات أخري شارك في بعضها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، والروائي جمال الغيطاني، أما مهرجان الشعر الذي كنت مدعواً إليه، فهذه هي دورته الأولي، فيما بعد وفي الدورة الثالثة 1994سيذهب الشاعر محمد سليمان، وفي الرابعة سيذهب حلمي سالم، ادعي البعض أنهم هم من أشاروا علي عبد الرزاق بدعوتي ، اثنان فقط، أظنهما فعلاً ذلك، أدونيس الذي لم يخبرني بشيء، وجمال الغيطاني الذي أخبرني، وأكد عبدالرازق صحة روايته، الأكيد أن اللعبي كان عراب الدورة الأولي، وكان صديقي وهو الذي راسلني ذهبت إلي أمستردام كأنني ذاهب لمقابلة فان جوخ ورمبرانت وسبينوزا، ومع ذلك لم أذهب إلي أي متحف، التزمت بالمهرجان التزام شاعر خام، والغريب أن المهرجان بعد دورتيه الأوليين أصابه العطب بسبب من سياساته المالية، ثم أصابته حمّي النسيان، أستاذ الأدب العربي بجامعة امستردام المستشرق بيتر سمور دعاني إلي العشاء بمطعم صيني، وعرفت منه ان المثقف الهولندي لايعاني التعقيدات التي يعانيها المثقف العربي، وأن أية محاولة للربط بين الشعر والسياسة تستحق السخرية الكاملة، ورسم أمامي صورة هولندية لايوجد فيها مكان يشغله اليسار علي الاطلاق، أفرادا كانوا أم جماعات، أذكر أنه في ليلة سفري، أصر صديقي الشاعر حسن طلب أن يوصلني، لأنه يعلم خوفي من السفر، فيما أعلم ولعه به، اصطحبني بسيارته إلي المطار، في بادرة من بوادره التي تخلو من كل ادعاء، خاصة أنني كنت قبلها قد شكوت من آلام بقلبي ،في الطائرة تصادف أن جلست إلي جوار فتاة أرجنتينية، بدنية بعض الشيء، ملتهبة، مفتونة بالكلام، وبلغة انجليزية لا يجيدها أحدنا، أحسست أننا نتكلم بطلاقة، تفاهمنا وانسجمنا وضحكنا وأحدثنا بعض الصخب، وافترقنا تحت سلم الطائرة .
قبل نهاية المهرجان وكما يفعلون في كل مهرجان ومع كل الضيوف طلب منا المنظمون أن نكتب أسماء من نرشحهم للحضور في المرات القادمة، وكتبت أسماء من أحبهم، محمد سليمان وحسن طلب وحلمي سالم، في كولومبيا وعندما سافر إليها حسن طلب، كتب اسمي، وفي العام التالي اتصلوا بي فاعتذرت لأن المسافة بعيدة، عموما في حفل الافتتاح، كان أدونيس في مقام رئيس وفد الشعراء العرب، وصعد إلي المنصة وألقي كلمة باسمه واسمنا، لكنه سافر بعد يومين فقط، كان مدعوا إلي مكان آخر، وفي ليلة الختام، تناولنا العشاء الأخير في مطعم تونسي، صاحب المطعم أدار،علي جهاز تسجيله أغنيات محمد عبدالوهاب، فغنينا معه، كنا نحن الشعراء العرب نجلس في صف واحد علي جانب من المائدة، وعلي الجانب الآخر يجلس الشعراء الهولنديون، علي يميني فيما أذكر عبداللطيف اللعبي وسعدي يوسف، علي يساري محمد الاشعري وسيف الرحبي، لا أذكر مكان جلوس الشاعرتين، سيف أيامها كان يقيم بأمستردام، والأشعري ربما كان رئيسا أو نائب رئيس اتحاد كتاب المغرب، اقتربت رؤوسنا نحن الثلاثة، وتآمرنا، وأحببنا أن نلعب، تشتهر هولندا بالدراجات، كل شعب أمستردام من راكبي الدراجات، كل شخص يملك سيارة أو لايملك لديه دراجة، يذهب بها إلي العمل، وإلي الأماكن القريبة، الكوبري الصغير علي النهر الصغير، اذا عبرته ساعة الضحي، لابد أنك ستندهش وأنت تشاهد الدراجات مربوطة بسلاسلها في حديد الكوبري، في كل شارع حارة ضيقة مخصصة لمرور الدراجات، لما سألناهم لماذا؟ قالوا لنا: انه إرث الحرب العالمية الثانية فمع ندرة الطاقة اعتمد الناس علي الدراجات، التي أصبحت فيما بعد علامة قومية، في حي الدام، والدام تعني المرأة، تواجد ڤاترينات زجاجية، يجلس وراءها نسوة عاريات من بائعات المتعة، يجلس في أوضاع تختلف حسب رؤية كل واحدة للوضع الأكثر إغراء، الڤاترينة التي ستائرها مسدلة بحيث لانري أحدا، هي الڤاترينة المشغولة بطالب متعة، تشتهر هولندا باوالدراجات وبالڤاترينات وبجميل حتمل الذي قابلته للمرة الأولي والأخيرة هناك في العشاء الأخير، اقتربت رؤوسنا الأشعري والرحبي وأنا، وتآمرنا، وأحببنا أن نلعب، اتفقنا علي كتابة بيان، صغناه برشاقة، وأعلنا فيه عن قيام تنظيم ذكوري، شاغله الاول هو حماية حقوق الرجال، رئيس التنظيم سعدي يوسف، وكيله وأمين صندوقه عبداللطيف اللعبي، الناطق باسمه عبدالمنعم رمضان، في صيغة البيان الذي قرأته واقفا، وواقفا ترجمه عبداللطيف اللعبي، أشرنا إلي أننا سنشتري لكل رجل دراجة، وأننا سنعتمد عليها في توزيع بياننا علي كل المنازل، والهيئات، وطالبنا بضرورة مساواة الرجل بالمرأة، وأن تقام للرجال ڤاترينات زجاجية مماثلة لڤاترينات النساء، في أثناء القراءة، كانت وجوه الشعراء الهولنديين تحمر وتنغلق وتنفتح ثم قاموا قيامة رجل واحد، وجلسوا في مكان آخر جلسة رجل واحد، وبعد قليل عادوا صامتين، جلسوا جميعا، فيما عدا ميخائيل زيمان الذي ظل واقفا، وشرع يقرأ البيان الذي كتبوه، كان يقرأ كأنه يتوعد، ندد بيانهم بالرقص الشرقي والجلابيب والقباقيب وماشابه، كان عبدالرزاق قد بلغ الشوط الأخير من الحرج، قال سعدي: حتي الروس يضحكون يا أخي، أما الهولنديون فقط اكتشفنا إما أنهم لايعرفون الضحك، واما أننا ضحكنا اكثر من اللازم.
في جلساتنا الممتدة طوال أيام المهرجان كان عبدالرزاق يفخر ويعلن بنود المانفستو الشفاهي الخاص بمهرجانه، وأهمها أنه لن تتكرر أسماء المدعوين، سيحرصون علي أن تكون الأسماء المدعوة في كل دورة جديدة وللمرة الأولي، أعترف أنني في هولندا، كنت مأخوذا، لم نكن أنا وأدونيس قد أصبحنا صديقين بعد، اننا بصدد مشروع صداقة خطونا خطوته الأولي فقط، كنت مازلت العاشق، وكان مازال المعشوق، وأظن أن أصحابي جميعا كانوا مثلي بالنسبة له، المسافة بينه وبينهم كانت هي المسافة بين الميلاد الأول ميلادهم وبين الميلاد المستمر الدائم منذ زمن طويل وإلي زمن طويل، ميلاده، وكانت جملته الشعرية التي أحرص علي ألا أكون موجودا فيها، كانت ترن في أذني وقلبي، كل أعدائي كانوا أصدقائي، غادرت أمستردام دون أن أسهر مع أدونيس سهرة واحدة طويلة، كان مشغولا، وكان الزمن يدخر ما سوف يظل يمنحه لنا من سهرات، أمستردام لم تكن علامة أدونيس، كانت باريس وجبلة هما الابرز بين علاماته، وفي كل مكان قابلني فيه أدونيس لم يكن يسألني للاطمئنان فعلا عن أحد بقدر ما كان يسألني عن حسن طلب وحلمي سالم وأحمد طه ومحمد سليمان: كيف الاصدقاء، كيف محمد سليمان. مرفق لمزيد من استذكار العذوبة والشجن رسالتنا الدعوة اللتان أرسلهما الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي وبخط يده.