كنا في السبعينيات، وكان الزمن يرفع اليسار واليساريين فوق الأعناق، الحركة الطلابية في الجامعة يقودها اليسار، والسادات يطاردهم ويبشر بالعلم والإيمان، بعد حرب 73 أصبح يبشر بالعلم والإيمان والسلام والمفاوضات، السادات حوّل خصومه إلي أبطال عندما سجنهم، الزمن أحمر والسلطة صفراء، الضرورة أن تكون يساريا، والمجانية أيضا أن تكون يسارياً، صلاح عيسي يصل بيساريته إلي الخط الأخير ويكتب عن تمثيلية حرب 73، وينشر مقالته بمجلة الكاتب، قوميسيير الثقافة يوسف السباعي يستبعد مجلس تحرير المجلة ويحل صلاح عبد الصبور محله، مجلة الطليعة الصادرة عن مؤسسة الأهرام تستضيف مطاريد مجلة الكاتب المغدورة، اليسار البمبي المأنوس يستضيف اليسار البمبي المأنوس، وكلهم يشتمون صلاح عبد الصبور ياللإنسان الورقة، ياللإنسان الورقة، قبل فترة كانت مجلة الطليعة قد استحدثت بداخلها عدة ملاحق منها ملحق الأدب والفن أشرف عليه منذ بدايته غالي شكري، ثم خلفه فاروق عبد القادر، هذا هو التعارف الأول بيننا، تعارف علي الورق، مازلت أذكر حالتي عندما قرأت رحلتيه إلي الشام والعراق، مازلت أتخيل فاروق يمشي في شوارع بغداد يركب التاكسي ويطلب من السائق أن يدله علي بيت الجواهري، دون أن يعرف العنوان، ويدله السائق ،شغفت بالأسماء التي احتفل بها في البلدين، سعيد حورانيه، وعبد السلام العجيلي وحيدر حيدر ووليد إخلاصي وزكريا تامر، الأخير كنت قد عرفته من قبل، غائب طعمه فرمان ومحمد خضير وجمعة اللامي وفؤاد التكرلي، وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، الأخيران عرفتهما من قبل، في هذه الأيام، كان شغفي بتنيسي وليامز الكاتب المسرحي الأمريكي لا يفوقه سوي شغفي بالمازني وأدونيس و البير كامو، كان الزمن هو زمن جيفارا وتروتسكي وماو، وزمن مسرح اللامعقول، وزمن أدونيس والماغوط، وزمن حميدة نعنع وغادة السمان وصنع الله إبراهيم، وزمن تنيسي ويليامز وآرثر ميلر، لازلت أتساءل، لماذا اهتم فاروق بالأول دون الثاني، الظاهر يوحي بالعكس ، والباطن يوحي بالعكسين، قرأت تنيسي وليامز في ترجمات مختلفة منها ترجمات قام بها فاروق، قرأت ليلة السحلية أو ليلة الإيغوانا، وفترة التوافق، في السبعينيات وللمرة الأولي، قدمني أحمد عبد المعطي حجازي كشاعر ، كتب مقالته التي تبشر بي، وتنبئ عني في مجلة روزاليوسف فبراير 1972، صدّقتُ أنني شاعر، وسعيت في سبيل نشر قصائدي في مجلات ذلك الزمان، البيان الكويتية، الطليعة الأدبية العراقية، الثقافة العراقية، لم أكن أعلم أن العراق به مجلتان تحملان الاسم ذاته (الثقافة) ،إحداهما يشرف عليها العراقي الدكتور صلاح خالص وزوجته المصرية سعاد خضر، والثانية يشرف عليها الشيوعيون العراقيون، كنا في أول عهدنا نذهب إلي مقهي زهرة البستان في وسط البلد، هناك التقيت فاروق عبد القادر في المرة الأولي، سألني عن اسمي، وعما أفعل، ولما عرف أنني نشرت بعض قصائدي بمجلة الثقافة العراقية، ازداد اهتمامه وسألني: أيهما، فقلت له: مجلة صلاح خالص، استغربت لأن نظراته أصبحت باردة، ولسانه فجأة صار فاتراً، وكاد ينصرف عني، في السبعينيات كانت كل العلامات والمؤشرات تتجه إلي اليسار، أذكر أنه في كأس العالم لكرة القدم 1978 والذي أقيم بالأرجنتين، كان الفريق الهولندي، هو المرشح الأول لأنه صاحب الطريقة الجديدة (الطاحونة الهولندية) أوالكرة الشاملة، ولأنه يضم النجوم الأفضل في العالم وعلي رأسهم يوهان كرويف، وكان الدكتاتوريون العسكريون برئاسة خورخي فيديل يحكمون الأرجنتين، جاء فيديل بعد فترتي حكم خوان بيرون وزوجته الثالثة إيزابيلا بيرون، كان بعض اليسار قد أسف علي بيرون، الناس في هولندا لم يكونوا راغبين في ذهاب فريقهم إلي ذلك البلد، يوهان كرويف رغم صغر سنه أعلن اعتزاله قبل بدء البطولة حتي لا يذهب، في المباراة النهائية بين الأرجنتين وهولندا لم يسلِّم لاعبو هولندا علي الديكتاتور فيديل، حتي الكرة كانت تتجه إلي اليسار، في السبعينيات كل شيء كان يتجه إلي اليسار، كان الخليج وليبيا وقطر بلدانا لم يعرفها المؤشر بعد، وكان وجه فاروق مثل وجه أبي ذر الغفاري، ومع ذلك مرت بي لحظات ضيق أو عدم ارتياح في علاقتي ببعض ما يكتبه، مقالاته عن يوسف إدريس عموما، وعن روايته البيضاء خصوصا جعلتني أتململ، في أواخر الثمانينيات أصدرنا أنا وزملائي من جماعة أصوات (إحدي الجماعتين الشعريتين في السبيعينيات) أصدرنا العدد الوحيد من مجلتنا الكتابة السوداء، العدد أصبح ذكري، العدد أصبح أباً لسلالة أتت بعده، في أتيلييه القاهرة أهديت فاروق عبد القادر العدد وقلت له: ولأنك فاروق عبد القادر ستدعمنا وتدفع أكثر، ففوجئت به يغضب ويثور، ويقف ليقول لي: ألا تعرف من أنا؟ كنت أعرف أن بين القصرين يتميز عندي بنجيب محفوظ، والسيدة زينب بيحيي حقي وشبرا بفاروق عبد القادر، لكنني تركته وانصرفت صامتاً، بعدها سألني صديقه عما حدث، فأعلمته بأنه مجرد سوء فهم، في المرة التالية أبلغني صديقه أن فاروق يرغب أن يراك ليعتذر لك، فقلت: لا، فاروق لا يعتذر لأحد، يكفي أن أراه، ورأيته، ذهبنا معا إلي مكتبة مدبولي بميدان طلعت حرب، ثم إلي البن البرازيلي، وشربنا الكابوتشينو، بدا لي وكأنه يمارس عادات اعتادها، ويتأكد بها من وجوده، سألته عن تنيسي وليامز، قال: هي مرحلة انتهت، وحدثني عن دراسته، وعن يوسف مراد، وعن الطعام، وعن قطعة الكبدة التي يبدأ بها وجباته الشهية، لأنها تسد خروم الأسنان، كانت لغته العربية صحيحة وجميلة ولها صوت، فيما بعد سأمشي وراء صوت قصص وحيد الطويلة، وأطمئن إلي عشاق اللغة من أصحابي، سألني عن خالدة سعيد فقلت له سيدة المقام سألته عن عبد الرحمن منيف، بمناسبة ما كتبه عن خماسية مدن الملح، سألته وعارضته وافترقنا صديقين، وجاءت التسعينيات، كانت شمس اليسار تذبل، والمؤشرات في نظر الأغلبية تعتدل وتعود إلي صوابها التاريخي، صوابها اليميني، صلاح عيسي يكتب في صوت الكويت، أحمد حجازي يحب فرج فودة ويكره عبد الناصر، كلاهما كذا وكذا، عادل حسين يتيامن بكل عافيته، حزب التجمع يصبح أبطأ من ترام القاهرة، أين ترام القاهرة، الاتحاد السوفييتي يتفكك، النظم العربية زاعمة النضال تطأطئ الرأس أمام كل عابر وتنتج شعارات جديدة، ياسر عرفات يصبح زعيما من ورق، وصدام حسين هو زعيم من متاريس وخوازيق وأي أسد عندما يظهر في قصائد الشعراء يصبح أسدا علي وفي الحروب نعامة، ومحمود العالم يمشي من جاردن سيتي حيث منزله إلي المجلس الأعلي للثقافة حيث غايته، رفعت السعيد مع حراسه يدخلون الجامعة الأمريكية ليعلم الطلاب، والجامعة الأمريكية تصبح الأرض الجديدة لليسار الجديد، فيما عدا فاروق عبد القادر، يما عدا المختل البائس فاروق عبد القادر، إنه المسكين الوحيد الذي لا يتغير، الجائزة الوحيدة التي نالها كانت مناصفة مع المحترمة جدا يمني العيد، وبهيئة تحكيم يرأسها علي الراعي وضمن عضويتها محمد دكروب، فاروق سينفق أموال الجائزة، في المقاهي، وعلي أصدقائه، وعلي عدم الخوف من المستقبل، سوف يجلس في مقهاه ويستعيد زمنه الجميل ويستمع إلي أغاني عبد الحليم حافظ، وكلما استبدل الجرسون شريطا بشريط، منحه عشرة جنيهات، كل المثقفين تركوه وحيدا وذهبوا إلي المجلس الاعلي للثقافة، إمَّا فاعلين وإما منتفعين وإما طلاب منفعة وإما طلاب وجود، هكذا أصبح جيل السبعينيات، وهو جيلي، ضائعا يوشك أن يعاني من غروبه، صقوره يصبحون رجالا طيبين، وأحيانا يصبحون يتامي، منهم من يطلب الجوائز ومنهم من يطلب اللجان، ومنهم من يئس واعتكف وتعفف، ومنهم من يسخر من المقاومة ويبرر كل الأفعال ويساويها، ومنهم من أصبح حكيما ، ومنهم من مات، غروب السبعينيات يشبه تمام الغروب، في التسعينيات سافرت مع فاروق عبدالقادر إلي المغرب، كان فاروق مغرما بالأسماء الثلاثية، فسعيد الكفراوي عنده هو سعيد سلامة الكفراوي، وإبراهيم عبدالمجيد هو إبراهيم عبدالقوي عبدالمجيد وهما معا عبدالقوي وسلامة، وعندما اشترك في ندوة بجامعة الرباط مع عبدالفتاح كيليطو، اكتشفت أنه كاتب فقط، كاتب في عزلته، بدا خطابه للطلاب المغاربة مدمني الحداثة وكأنه خطاب مشرقي قديم، فيما بدا خطاب كيليطو علي المقاس، وربما أوسع، صفقوا وصفقنا معهم لكيليطو، صمتوا وصمتنا لفاروق، بعدها ضاع منا فاروق ، ضاع في الرباط، وتاه في مراكش و اختفي في القاهرة، لكنه مازال يحمل وشمه في قلبه، وشمه الذي سيدفن معه، دييجو مارادونا اللاعب الأسطوري يضع وشمين لجيفارا وكاسترو، أحدهما علي يده والآخر علي رجله، ويعد بأن يضع وشما لشافيز،وشم فاروق عبدالقادر حقيقة ووشم مارادونا كيتش، آخر مرة رأيت فيها فاروق هي أيضا آخر مرة رأيت فيها يوسف أبو رية، كانا معا في معرض الكتاب، قال لي فاروق: أهلا يا محمد، وصحح يوسف له الاسم، بعد قليل قال لي فاروق: اتصل بي يا محمد، وصحح يوسف، لم أدرك ساعتها أن مرضه ابتدأ، آخر مكالمة كانت بعد أن أرسلت إليه كتابي متاهة الإسكافي، دعاني إلي سوق الحميدية يوم الأحد، ولم أذهب، مرض فاروق ومثلما فعلوا، أنتم تعرفونهم، مع كل خصومهم فؤاد زكريا وعزالدين اسماعيل وسواهما، فعلوا مع فاروق، حاربوه وحاصروه طوال حياته، لأنه يفضحهم، لأنه لا يحتاج إليهم، ولما أبهجهم مرضه، بدأوا يعلنون شفقتهم عليه، ثم بالغوا في إعلان الشفقة والازدراء فمنحوه جائزة مهينة و هو الأعلي قدرا من الحاصلين علي الجوائز الأعلي، ولكنه، ويا للفخر يرفض الجائزة ويموت، ليظل كما عهدناه، سوف نقول له ما قاله الماغوط للسياب: تشبث بموتك أيها المغفل، دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب، فما الذي تريد أن تراه، كتبك تباع علي الأرصفة، وعكازك أصبح بيد الوطن.