لم يتبقَ للمصريين في عتمة الجوع وارتفاع الأسعار وحرب نظام الانقلاب للغلابة والفقراء في مصر، سوى الانتحار للتخلص من العذاب الذي لم ينقطع طوال خمس سنوات من حكم عبد الفتاح السيسي. ويبدو أن فكرة التخلص من النفس والأطفال أصبحت رائجة لدى المصريين، حيث انتحر رجل يعمل “حدادا”، أمس الخميس، بإلقاء نفسه في نهر النيل، وذلك بعدما ألقى أبناءه الثلاثة، حيث عُثر على جثته وأحد أبنائه في مياه النيل بإمبابة، بينما عُثر على جثة ابنته بكامل ملابسها أسفل كوبري الساحل، وتكثف قوات الأمن جهودها للعثور على جثة الابن الثالث. وكشفت التحقيقات التي أجرتها نيابة الساحل، عن أنه تم العثور على جثة فتاة في العقد الثاني من العمر أسفل كوبري الساحل بكامل ملابسها، كما عثرت قوات الأمن على جثتين: الأولى لرجل في العقد الخامس من عمره، والثانية لشاب في العقد الثاني من عمره، حيث تبين أنهما لأب وابنه، وتبين من بطاقة الرقم القومي للأب أنه حداد ومقيم بمدينة السلام. وباستدعاء شقيقه تعرف على جثة شقيقه ونجله، كما تعرف على جثة ابنة شقيقه بالطب الشرعي، وأدلى بتفاصيل عن حياة أخيه، أهمها أنّ زوجته هجرت منزل الزوجية منذ عدة سنوات، وأقامت دعوى خلع ضد زوجها المنتحر بسبب مكوثه في المنزل إثر إصابته بعجز بسبب العمل. ومع تكرار هذه المشاهد المأساوية التي أصبحت عادة يومية لدى المصريين اليائسين من تحسن أوضاعهم الاقتصادية وعجزهم عن إطعام أبنائهم، لم يهتم نظام الانقلاب بالتعليق على هذه الحوادث، أو علاجها، أو العمل على تحسين الأحوال المعيشية ولو بوقف إجراءات التقشف ورفع الأسعار، التي يستمر فيها نظام الانقلاب العسكري. وبالرغم من أن حوادث الانتحار زادت في الآونة الأخيرة بشكل مرعب، حيث تقع ما بين خمس إلى ست حالات كل أسبوع، إلا أن نظام الانقلاب ما زال يقوم بإجراءات قتل المصريين والتخلص منهم. وسجلت محاضر وتحقيقات الشرطة والنيابة العامة 30 حالة انتحار في يوليو الماضي فقط في 15 محافظة، وسجلت محافظة القاهرة خمس حالات، منها ثلاث حالات بالقفز أسفل عجلات مترو الأنفاق. وتباينت أسباب حوادث الانتحار بين الظروف المادية السيئة والخلافات الأسرية والأمراض النفسية، ولا توجد إحصاءات رسمية سنوية بأعداد المنتحرين في مصر، بالنظر إلى أن أهالي المنتحرين يرفضون الإعلان عن ذلك، ولذلك لا توثق أغلب الحالات، وفق تصريحات مسئولين بوزارة الصحة. بينما كشف مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية، في تقرير له، عن أن مصر شهدت 4000 حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، في الفترة من مارس 2016 إلى يونيو 2017. لماذا ينتحرون؟ يشعر المصري في عهد الانقلاب العسكري بفقدان الأمل تماما بعد العجز عن تلبية احتياجات أسرته، بسبب غلاء المعيشة، ولا يرى حلولا للألم الذي يشعر به سوى الهروب بإنهاء حياته، خاصة وأن السياسات الاقتصادية للدولة زادت من الأعباء اليومية للمواطنين وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما أدى لانتشار الجريمة وتنامي ظاهرة الانتحار، في ظل نظام يسلب من الشعوب الأمل في غد أفضل، فتكون النتيجة هي الانتحار. وبالرغم من كثرة هذه الحوادث، إلا أن السيسي يستفز المصريين بمزيد من إجراءات وقرارات الحرب على الغلابة، حتى حين تشاهد المصريين في وسائل المواصلات وعربات مترو الأنفاق، تشعر بحالة من الذهول لانطباعات المواطنين وتعليقاتهم على الوضع الاقتصادي. وتحول حال المصريين بعد الفقر إلى المرض، نتيجة حالات الاكتئاب والضغوط النفسية، حيث كشفت الإحصاءات عن أن أعداد المصابين بأمراض القلب تتراوح من 450 إلى 500 حالة وفاة لكل مائة ألف مواطن سنويا بسبب أمراض القلب، وذلك وفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية. ويعتبر ارتفاع معدلات الانتحار مؤشرا على وجود خطر في النظام الاجتماعي، مع التدهور الحاد في الأوضاع الاقتصادية، وانتشار البطالة بنسبة عالية بين الشباب، ما أفضى إلى عدم قدرة ملايين المصريين على تلبية احتياجاتهم الأساسية أو حتى العيش مستورين كما كان الحال قبل قرارات تعويم الجنيه في 03 نوفمبر 2016م، والتي ترتب عليها تآكل قيمة العملة المحلية بأكثر من الضعف، وتراجع قيمة المدخرات، ثم موجات الغلاء التي لا تتوقف، حتى بلغت نسبة الزيادة في الوقود 500%، وتذكرة المترو 700%، والمياه والكهرباء 400%، حتى تعرت كثير من الأسر التي كانت قبل ذلك مستورة وباتوا في هم وغم بلا حدود. وفي أغسطس الماضي، شهدت محافظة الدقهلية جريمة بشعة، بعدما قتل أب من قرية “ميت سلسيل”، طفليه بإلقائهما في ترعة “فارسكور”، واعترف بقتلهما بزعم أنه لا يستطيع تلبية متطلباتهما. وفي الشهر نفسه، استيقظ أهالي محافظة المنيا على واقعة قتل بإحدى قرى مركز المنيا، حيث قامت ربة منزل بإلقاء طفليها في ترعة البحر اليوسفي بعزبة الشيخ عيسى التابعة لقرية صفط الخمار بمركز المنيا، بسبب خلافات مع زوجها. وفي سبتمبر، عثر أهالي قرية الرملة ببنها في محافظة القليوبية، على جثث أب وأبنائه الأربعة متعفنة داخل شقتهم، وتبين أن الأب تخلص من أبنائه ثم انتحر بسبب مروره بحالة نفسية سيئة نتيجة تراكم الديون عليه وحرمانه من الميراث وخلافاته الزوجية وترك زوجته الأولى المنزل له. وفي الشهر نفسه، شهدت مدينة الشروق مذبحةً مفجعة، بعدما ذبح رجل زوجته وأبنائه الأربعة، نتيجة شكه في سلوك زوجته وأنها على علاقة بصديقه، وذبحهم وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، ووضع كل جثة بجوار الرأس المقطوع منها، محاولا التخلص من صديقه أيضًا، لكنه نجا بعدم رده على الهاتف بعد مقتل الزوجة والأبناء، وفقًا لاعترافاته.