كتبت منذ أسابيع أن العلمانيين عندما شاركوا فى الثورة كانوا على يقين بأن مصر ستسقط حتما فى أيديهم.. ولم لا.. فالبنية التحتية للدولة العميقة علمانية، لن تصمد أمامها أى محاولة إسلامية لحكم مصر.. والمؤسسة العسكرية -التى صنعها مبارك على عينه، وكانت تحرم الملتحين من دخول أندية القوات المسلحة- لا بد أن تكون معهم.. والمؤسسة القضائية التى قام مبارك وزوجته بتعيين قياداتها ومد سن التقاعد لهم، لا بد أن تكون معهم، أما المؤسسة الإعلامية فهى فى جيبهم بالفعل، لذلك لم يمانع أى منهم عندما تسلم المجلس العسكرى السلطة من مبارك، وكان تصورهم هو استخدام قوة (الإخوان) لإزاحة مبارك عن الحكم، وبعد أن يستنفدوا أغراضهم من الجماعة، يطيحون بها ويستفردون بحكم مصر، لم يكن للشعب أو الديمقراطية أى اعتبار فى تصوراتهم المستقبلية، قلت أيضا إن مشاركتهم فى الثورة كانت على خلفية "خناقة" داخل البيت العلمانى الواحد، مدفوعة بالرغبة فى الاستحواذ على ما تبقى من الكعكة المصرية، وذلك باستبدال نظام علمانى بآخر مستبد مثله، ولكن أكثر تمدنا.. أو بتعبير آخر، استبدال الدولة البوليسية، التى يعتمد أمنها على جهاز أمن الدولة، بدولة وسائطية يعتمد أمنها على وسائط الإعلام (الدعاية)، وقدرتها على غسل عقول الناس بالأكاذيب والأضاليل وتوجيه الرأى العام إلى خدمة.. ليس فقط الأجندة نفسها العلمانية لمبارك ونظامه، وإنما أيضا أجندة أصحاب البيزنس الجدد الذين كان من المخطط لهم أن يتسلموا مصادر الثروة من جماعة جمال مبارك، ومن أساسيات الدولة الوسائطية أنها كلما نجحت فى تجهيل وتضليل الشعب، وغسل عقله بالأكاذيب وأنصاف الحقائق، كان أكثر قابلية للسيطرة والإخضاع.. تماما كما فعلت وسائط الدعاية الصهيونية بعقول الأمريكيين والأوروبيين، ولهذا كان العلمانيون دائما ما ينظرون إلى الإسلاميين بخوف وقلق؛ لأن تدينهم يمنحهم مناعة ضد التضليل، فيصبح إخضاعهم أكثر صعوبة، هذه المقدمة لخصت الدوافع والآمال التى على أساسها شارك العلمانيون فى الثورة.. ولكن. ما جرى على أرض الواقع بعد خلع مبارك كان سلسلة من الصدمات التى أطاحت بتوازنهم وجعلت أقنعة الديمقراطية تتساقط عنهم واحدا تلو الآخر، ويسقطون فى اختبارات الديمقراطية المتتالية. كانت الصدمة الأولى فى موقف المجلس العسكرى، الذى كان وطنيا بامتياز (قبل أن تفسده وساوس تهانى الجبالى، ويحيى الجمل، وسامح عاشور، وأسامة الغزالى، وإبراهيم درويش.. إلخ)، فالمجلس لم يتواطأ معهم كما كانوا يتوقعون، فيقوم بتعيين جمعية تأسيسية، تتشكل أغلبيتها الساحقة منهم.. ولكنه قرر أن يتعامل مع الخلاف القائم فى الساحة السياسية بحيادية وتجرد، ويترك الأمر للشعب لكى يقرر هو كيف تبدأ مصر طريقها الجديد.. بصياغة الدستور، أم بانتخابات برلمانية، ولأنهم كانوا يتوقعون أن يتسلموا الحكم من العسكر، كان موقفهم من صندوق الاقتراع هو الرفض منذ البداية، فكيف يحتكمون إلى شعب يعتبرونه أبله وقاصرا وفاقدا الوعى؟ كيف يتركون آمالهم وأطماعهم رهنا لإرادة شعب يكرهونه؟ ولكن لم يكن أمامهم إلا الاستسلام لأمر واقع فرضه 18 مليون مصرى شاركوا فى استفتاء مارس 2011، وعلى الرغم من حملات الشيطنة والترويع والتفزيع التى مارسوها فى وسائطهم، صباحا ومساء عبر الصحف والفضائيات، من أجل دفع الناس لرفض التعديلات الدستورية، جاءت النتيجة بمثابة صدمة أخرى، لم تستطع أغلبيتهم أن تتحملها، فرفضوا نتيجة الاستفتاء وانقلبوا عليها، ومارسوا ضغوطا كثيفة على المجلس العسكرى من أجل تأجيل الانتخابات البرلمانية عامين أو ثلاثة أعوام. هذه المهلة لم تكن مطلوبة للاستعداد كما زعموا، وإنما لتوفير وقت كاف لوسائطهم لكى تأخذ كل ما تحتاجه من فرص لشيطنة الإسلاميين والتحريض عليهم وتشويه سمعتهم.. وأيضا لتوفير ما يكفى من وقت لكى يقوموا هم بإثارة وتصعيد القلاقل والاضطرابات فى الميادين لإجبار المجلس العسكرى على الاستجابة لدعوة "الدستور أولا". ثم كانت الصدمة التالية عندما أقر المجلس العسكرى قيام حزبى (الحرية والعدالة) و(النور) وغيرهما من الأحزاب الإسلامية، فقد كانوا يتوقعون أن المجلس العسكرى مثل مبارك، سيكون له موقف عدائى من الإسلاميين، فيحظرهم ويضيق عليهم، ولم يتردد إبراهيم عيسى واستعلاء الأسوانى ومأمون فندى وغيرهم، فى الإعراب بصراحة عن غضبهم على المجلس العسكرى لأنه "سمح بقيام أحزاب دينية"، ثم جاءت الصدمة التالية عندما فاز الإسلاميون بأغلبية نيابية تقارب النسبة التى حققوها فى استفتاء مارس 2011. عند هذه اللحظة تحولت نسبة كبيرة من العلمانيين إلى شياطين (بكل ما فى الكلمة من معنى) تسير على الأرض، بداخلها طاقة هائلة من الشر، وشعر بعضهم بالندم على الثورة، وقالوا صراحة إنهم لو كانوا يعلمون أنه هكذا ستكون نتيجتها، ما كانوا شاركوا فيها.. وقال آخرون "أيام مبارك كانت أرحم"؛ ولأن نتيجة مجلس الشعب أشعرتهم بتهديد وجودى لعلمانية مصر (فهم يعتبرون البلد بلدهم بعد عقود من الهيمنة عليها)، كان لا بد من فتح محور آخر للهجوم فى الحرب على الإسلاميين. قبل انتخابات مجلس الشعب كان "الإعلام" هو محور الهجوم الوحيد فى الحرب. بعد الانتخابات جرى التوجه إلى القضاء المسيس، خصوصا المحكمة الدستورية ونادى القضاة، وكلنا نعرف تفاصيل الكوارث التى نجمت عن إقحام القضاء فى الصراع السياسى. ثم جاء الإعلان الدستورى فى نوفمبر ليجهض الانقلاب القضائى على الرئيس والجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، غير أن العقول الشيطانية لا تهدأ، والخطط البديلة لا تتوقف، هنا انتقلت الهستيريا العلمانية إلى مستوى آخر، وقرر ثورجية الدولة الوسائطية أن يتصالحوا مع خصومهم فى البيت العلمانى، ويتحالفوا مع فلول الدولة البوليسية ضد عدوهم المشترك، وهكذا بعد إحباط هجوم المحور القضائى، تطورت الحرب إلى الاستعانة المكشوفة بالقوة الضاربة للدولة البوليسية.. ضباط أمن الدولة الحانقين على الثورة والجماعة، ومعهم أتباعهم من البلطجية وشباب المقابر والعشوائيات، ومنذ نوفمبر الماضى، أصبح الهجوم على الرئيس والجماعة ينطلق من ثلاثة محاور.. سياسية (من جبهة الخراب)، وميدانية (من البلطجية والمرتزقة)، ودعائية (من الصحف والفضائيات الخاصة). وتوقفت وسائطهم الدعائية عن الإشارة إلى الفلول والثورة المضادة، حتى يتمكنوا من إقناع الناس وغسل عقولهم بأن العنف والبلطجة أعمال احتجاجية على "سياسات مرسى الفاشلة"، وأن من يقذفون المولوتوف وينهبون المحال ويحرقون مديريات الأمن وسيارات الشرطة ويقطعون الطرق والكبارى، هم "ثوار" محبطون و"متظاهرون" مكتئبون.. ومن ثم يتم تحميل الرئيس والجماعة المسئولية عن كل ما يرتكبه تحالف الثورة المضادة من جرائم، وأصبح واضحا هدف هذه الحرب: انقلاب عسكرى يطلبونه صراحة وبكل بجاحة ووقاحة، بعد أن فقدوا كل ذرة حياء كانت لديهم، بعد فشل الخطة (أ) فى إنجاز انقلاب قضائى على المؤسسات المنتخبة، جاء دور الانقلاب العسكرى.. فقامت الخطة (ب) على استدراج (الإخوان) إلى الشارع لكى تقع مقتلة عظيمة تفرض على الجيش الانقلاب، ولكنها فشلت، ثم قامت الخطة (ج) على الوقيعة بين الجيش والرئاسة بنشر شائعات لا تتوقف صباحا ومساء عن "أخونة الجيش"، و"إقالة وزير الدفاع"، و"تخفيض ميزانية الجيش"، وتدبيج "مقالات رأى" للترويج لها فى وسائطهم، لكن هذه الخطة أيضا فشلت، والآن نحن فى خضم الخطة (د) القائمة على التحرش بالشرطة واستفزازها حتى يتم إنهاكها ودفعها للتمرد، أو ضربها والجيش بعضهما ببعض. لا يكتفى العلمانيون بما أحدثوه من خراب بمصر على مدار العقود الثلاثة الماضية، ويصرون على استكمال مهمتهم للإجهاز على ما تبقى من وطننا الحبيب، وكل منهم مطمئن إلى ملايينه المودعة فى الداخل والخارج، ومن ثم أصبح لا يهتم إلا بإطلاق نيران أحقاده ضد الإسلاميين، حتى لو أدت إلى حرق مصر، والسؤال الذى يطرحه الجميع اليوم هو: هل لدى الرئيس خطة أو إستراتيجية للتعامل مع هذا الوضع المتفجر؟ وإلى متى سيظل من يمولون الإرهاب والبلطجة، ومن يديرون أعمال التخريب فى مأمن من الحساب والعقاب؟