ما نسميه عندنا وسائل إعلام, يسمونه في الغرب وسائط(Media), علي أساس أن الصحف والإذاعات وقنوات التلفزة هي وسائط تنتقل من خلالها التعبيرات بكل أطيافها.. الأفكار, العقلاني منها والمجنون.. والآراء, المعتدل منها والمتطرف.. والمصطلحات, الدقيق منها والمضلل.. والأخبار, الصادق منها والكاذب.. إلخ. وكما تنطلق الذخائر من الأسلحة, تنطلق التعبيرات من الوسائط مستهدفة عقول الناس من أجل توجيهها وتشكيل أفكارها, إما في اتجاه البناء والنهضة والإصلاح, وإما في إتجاه الهدم والفتنة والإفساد. في كتابه( تلفيق الرضاManufacturingConsent) يتحدث البروفيسور نوام تشومسكي عما تمارسه الوسائط في بلاد الغرب الديمقراطية من تهميش لعامة الناس والسيطرة عليهم عن طريق التحكم في أفكارهم, وذلك من أجل ضمان مجتمع مطيع للمؤسسة الحاكمة. هذه المؤسسة في الولاياتالمتحدة لا يعبر عنها الحزبان الرئيسيان لأنها, كما تؤكد عضوة مجلس النواب السابقة سينثيا ماكيني, فوق حزبية تضع الأجندة العامة التي لا يجرؤ سياسي أيا كان علي تجاوز حدودها. عملية التحكم في الأفكار تساهم فيها عدة عناصر, علي رأسها الانتقائية.. فهناك أفكار مسموح بها, وأخري غير قابلة للطرح علي الرأي العام. وقد كانت لي تجربة طويلة, فيما يخص أفكاري غير القابلة للطرح, مع صحف أمريكية وبريطانية خلال13 سنة عشتها في البلدين, وبعدها مع عدد من الصحف الخاصة في مصر. هذه التجربة مكنتني من ملاحظة التشابه الكبير بين ممارسات الوسائط( صحف وفضائيات) المصرية والخليجية من ناحية, والأمريكية والبريطانية من ناحية أخري, وذلك عندما تحول دور الوسائط من الدفاع عن الوطن أمام طاغية, إلي العدوان علي الشرعية بعد الثورة. كان أمر محير أن تشارك شخصيات عديدة من النخبة العلمانية في الثورة علي نظام حكم تجمعه مع هذه النخبة هوية سياسية واحدة. كنت أنا وإسلاميون كثيرون مثلي نظن أنهم ثاروا من أجل الديمقراطية, ومن أجل أن يستعيد الشعب حريته في تقرير مستقبله واختيار من يحكمه. غير أن مواقف هذه النخبة ضد الديمقراطية وتمردها الدائم علي إرادة الأغلبية الشعبية منذ استفتاء مارس2011, ومرورا بكل الانتخابات, وصولا إلي إستفتاء2012, فضلا عن دعوات التحريض علي إسقاط الرئيس المنتخب, والتي تكررت بدرجة مزعجة في الأيام الأخيرة.. كل هذه الأمور أكدت أن الاستبداد متأصل في العملة العلمانية بوجهيها المباركي والثورجي. كما أكدت أن خيانة الديمقراطية وإقصاء الإسلاميين أمران لازمان من أجل إستمرار الدولة الأمنية, ولكن بوجوه جديدة وأدوات أكثر تمدنا. بتعبير آخر.. إن أحد أهم أسباب مشاركة العلمانيين في الثورة هو أن نسبة كبيرة منهم كانت تتطلع لإستبدال الدولة البوليسية بدولة وسائطية, يستطيعون من خلالها إلتهام قطعة كبيرة من الكعكة التي كانت تحتكرها عائلة مبارك وجماعة ابنه. فإذا كانت الدولة البوليسية هي وسيلة مبارك لتأمين نظامه, فإن النخبة العلمانية تستميت الآن لتأمين نفوذها وسطوتها من خلال الدولة الوسائطية, التي تسعي لتحصين نفسها من أجل إتمام المهمة الأمنية الموكلة لها.. إنتزاع الحكم. هو إذن مجرد إختلاف في شكل الدولة الأمنية.. بينما في الواقع لا فرق بين الدولتين البوليسية والوسائطية من ناحية الجوهر والمضمون. لا فرق بين الشرطة الباطشة بالأجساد, والوسائط الباطشة بالعقول.. بين العصا الأمنية الغليظة, والأكذوبة الأمنية الكبيرة.. بين نفوذ ضابط( أمن الدولة) المحصن من العقاب, ونفوذ الإعلامي الذي يسعي لتحصينه دستوريا من العقاب. كل منهما أداة لفرض الرأي والاستبداد به علي الناس. كل منهما يصر علي إحتقار الديمقراطية وإرادة الناس والانقلاب عليهما بكل وسيلة ممكنة غير مشروعة.. إن لم يكن عسكريا كما حاولوا من قبل, فبالتحريض علي العنف وسفك الدماء في الشوارع كما يحاولون الآن. صحيح أن مهمة الوسائطي( الإعلامي) تبدو أكثر تمدنا من مهمة ضابط( أمن الدولة), إلا أنها أشد خطورة لأنها تستهدف تشويه العقل الجمعي للمجتمع, وهو ما تعبر عنه الآية القرآنية( الفتنة أشد من القتل). ولذلك كان منطقيا أن يعمد نظام مبارك إلي إقصاء الإسلاميين, ليس فقط عن الشرطة بكل فروعها, وإنما أيضا عن الوسائط بكل أنواعها, بينما كانت الحرية مطلقة في هذا المجال لرفاقه في العلمانية. إن كل دكتاتور ينظر إلي الوسائط كسلاح لا غني عنه في السيطرة علي الناس, ومساندة ودعم الدولة البوليسية في تأمين نظامه. ولا ننسي في هذا الصدد ما فعلته وسائط دعاية جوزيف جوبلز بتحويل الشعب الألماني إلي قطيع وراء هتلر, أو ما فعلته وسائط دعاية عبد الناصر من غسيل لعقول المصريين, أو ما فعلته وتفعله وسائط الدعاية الصهيونية بالعقول في عالم الغرب. يمكننا إذن أن نتفهم منطق العلمانيين عندما يقولون أن الثورة سرقت منهم. بعضهم يتعمد توجيه تهمة السرقة إلي الطرف الخطأ( جماعة الإخوان), حتي لا يفضح حقيقته أمام الشعب. ولكن البعض الآخر واضح وصريح, ويتهم الشعب بالبلاهة وقلة الوعي لأنه هو الذي سرق الثورة منهم بالتصويت لخصومهم. ولهذا نتفهم أيضا أسباب عودة النخبة العلمانية للاستقواء ب, والتحالف مع, الوجه الآخر من عملتهم, أي رفاقهم القدماء في نظام مبارك. إن مشكلتهم هي في الواقع مع الشعب الذي مازال حتي الآن يعلن في كل مناسبة رفضه لكل من الدولتين البوليسية والوسائطية, ويصر علي الدولة الديمقراطية كبديل وحيد للدولة الأمنية التي تحفظ أمن الجميع, وليس فقط أمن السلطة. ولذلك يسعي الآن دعاة الدولتين إلي التحالف معأ في جبهة واحدة لإنقاذ نفوذ العلمانية المصرية ووأد الديمقراطية الوليد. وأزعم أني كنت أول من كتب عن هذا التحالف منذ عام تقريبا( الحرية والعدالة2012/2/18). ولكن في النهاية لامفر من أن تحقق الدولة الوسائطية نجاحات في التأثير علي العقول. فعندما تكون الأفكار والأخبار والمصطلحات موجهة في إتجاه واحد صباحا ومساء علي مدي عشرين شهرا, فلابد أن يكون لهذه الدعاية المكثفة نتائج مشهودة في الصندوق الانتخابي. لكن يبقي تساؤل آخر محير: لماذا أعطت قلة من العلمانيين النافذين أصواتهم للرئيس مرسي في انتخابات الرئاسة ؟ هذا ما أتناوله بإذن الله الأسبوع المقبل. المزيد من مقالات صلاح عز