فريق معتبر من النخبة السياسية والثقافية العلمانية، لا يريد حدوث تحول ديمقراطي حقيقي في مصر، بل يريد بناء نظام سياسي أولا، طبقا لشروط هذه النخبة، ثم يتم ممارسة الديمقراطية داخل النظام السياسي الذي تختاره النخبة للمجتمع المصري. تلك هي الحقيقة التي تظهر في العديد من التوجهات التي تحاول وضع دستور جديد بعيدا عن الإرادة الشعبية الحرة، ثم فرض هذا الدستور وما يشكله من نظام سياسي على المجتمع. وبدأت تلك المحاولات بالهجوم على التعديلات الدستورية، والتي تجعل اللجنة التأسيسية التي تضع الدستور مختارة من مجلسي الشعب والشورى المنتخبين، حتى لا تتشكل لجنة وضع الدستور من القوى التي يختارها المجتمع في انتخابات حرة نزيهة. لهذا ظلت فكرة اختيار لجنة معينة لوضع الدستور تلح على هذه النخبة العلمانية، حتى يمكن تشكيل لجنة لوضع الدستور تتغلب فيها نسبة النخبة العلمانية، ولا يستند فيها للوزن النسبي للتيارات السياسية في المجتمع. وبعد انتهاء الاستفتاء على الدستور، واختيار الأغلبية لطريق محدد للتحول الديمقراطي، بدأت فكرة تشكيل مؤتمر عام للحوار الوطني، لوضع مسودة دستور جديد، يتم تقديمها للجنة التي سوف تضع الدستور. وظل العديد من أطراف النخبة العلمانية يعمل على تمديد الفترة الانتقالية، واستمرار الحكم العسكري، على أمل الوصول إلى طريقة لوضع دستور جديد تحت وصاية النخبة العلمانية. ومن اللافت للنظر، أن أغلب مرشحي الرئاسة المفترضين، لهم مواقف تماثل مواقف النخبة العلمانية، بل من الواضح أن العديد منهم جزء من تلك النخبة العلمانية. وهي نفس النخبة العلمانية التي كانت تؤيد ضمنا أو صراحة موقف النظام السابق من التيار الإسلامي، وهي أيضا نفس النخبة العلمانية التي كانت تشن الحملات الإعلامية التمهيدية على التيار الإسلامي، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، مما كان يساعد النظام السابق على تشويه الحركة الإسلامية، وتبرير الهجمات الأمنية عليها. وهي أيضا نفس النخبة العلمانية التي كانت تشوه صورة الحركة الإسلامية، وكانت تعمل على نشر المخاوف تجاهها، وهي تمارس نفس الدور بعد رحيل النظام السابق. مما يعني أن النخبة العلمانية التي كانت تعارض النظام السابق، وكانت تدعو للديمقراطية، كانت في الواقع تريد نظاما سياسيا علمانيا، لا يسمح للحركة الإسلامية بطرح مشروعها، ويسمح لها فقط بالعمل داخل مظلة العلمانية وبالالتزام بها، بحيث تظل الحركة الإسلامية ملتزمة بفصل المرجعية الإسلامية عن الدستور والدولة والنظام السياسي، رغم أن الدستور كان ومازال يعتبر المرجعية الإسلامية هي مرجعية الدولة والتشريع، وبالتالي النظام السياسي. ومن هنا جاءت فكرة وضع نص في الدستور يجعل القوات المسلحة هي حامية الدولة المدنية، والمقصود أن تصبح القوات المسلحة حامية لعلمانية الدولة، ويصبح النص على المرجعية الإسلامية للدولة والتشريع في المادة الثانية من الدستور، مجرد نص شكلي. وقد بات واضحا أن النخبة العلمانية عندما تتكلم عن الدولة المدنية، فهي تقصد دولة مدنية مرجعيتها علمانية، ولا تقصد الدولة الديمقراطية القائمة على الحرية والعدل، أو الدولة القائمة على الإرادة الشعبية الحرة، بل أن موقف النخبة العلمانية يعني ضمنا أن المطلوب بناء دولة على المرجعية التي تختارها النخبة وكأنها وصية على اختيارات الشعب، وبهذا تبنى دولة علمانية وفقا للإرادة الحرة للنخبة العلمانية، وبعيدا عن الإرادة الشعبية الحرة، ويلزم المجتمع المصري بالدولة العلمانية، باعتبار أنه غير قادر على اختيار هوية ومرجعية الدولة، وباعتبار أنه شعب غير مؤهل بعد للممارسة الديمقراطية، وأن نسبة الأمية فيه عالية. وكلها نفس مبررات النظام السابق، والذي فرض على المجتمع نظاما مستبدا، على اعتبار أن المجتمع غير مؤهل لقيادة نفسه. وما تحاول النخبة العلمانية بناءه، هو دولة علمانية مستبدة جديدة،حتى وإن كانت تبدو أكثر ديمقراطية أو أكثر نزاهة، لأن كل دولة لا تقوم على الاختيار الشعبي الحر، هي دولة مستبدة، وهي أيضا دولة غير مدنية، لأنها دولة تحكم فيها فئة من المجتمع باعتبار أن لها حق الوصاية على المجتمع. ويبدو أن النخبة العلمانية ترى بحكم علمها وتخصصها، أنها تملك الحق في تحديد مصلحة المجتمع، وتحديد الاختيارات الأساسية له، وتريد حماية هذه الاختيارات من خلال تدخل القوات المسلحة لحماية الاختيارات التي تختارها النخبة العلمانية وتفرضها على المجتمع. بهذه الصورة نجد أنفسا أمام تصور لدى النخبة العلمانية أو قطاع معتبر منها، يريد في الواقع إجهاض التحول الديمقراطي الحقيقي، وهي بهذا تمثل نخبة تنسب نفسها للثورة الشعبية المصرية، ولكنها لا تؤمن بحق الشعب في تقرير مصيره، ولا تؤمن بأن الملايين التي أقامت الثورة هي صاحبة الحق في تحديد نظامها السياسي. وكل ما يقال من مبررات لهذه الرؤية، يصل بنا إلى الموضوع الرئيس، وهو يدور حول دور الدين في المجال العام، فالنخبة العلمانية ترى أن الاعتماد على الإرادة الشعبية الحرة يعني بناء دولة مدنية إسلامية، وهي تدرك أن شعبية التيار الإسلامي هي الأكبر، ولذا تريد فرض الدولة المدنية العلمانية على المجتمع، تحت العديد من المبررات، التي تتجاهل حق المجتمع في اختيار مرجعيته وهويته. والحديث المتكرر من أطراف من النخبة على أن دور الدين في السياسة لا يمكن تجاهله، وأن بقاء المادة الثانية من الدستور مهم، هي كلها عناوين فقط تحاول من خلالها النخبة العلمانية البعد عن المواجهة المباشرة مع المجتمع أو أغلبيته، ويراد منها إبقاء دور الدين في الدولة والتشريع، دون تطبيق حقيقي له، بحيث يصبح الدين ضمن مكونات الهوية القومية، وجزء من ملامح المجتمع، ويصبح دوره قائما تحت شروط العلمانية، بحيث يبقى النظام السياسي متحررا من قواعد وقيم الدين، وبهذا يتم إبقاء المرجعية الإسلامية شكليا فقط، وهذا ما كان يقوم به النظام السابق، حيث حافظ على عنوان إسلامي للدولة دون أن يكون لهذا العنوان أي دور. ومرة أخرى، نجد أننا بصدد نخبة علمانية تريد في الواقع بناء دولة علمانية مستبدة تفرض على المجتمع، وبناء ديمقراطية مقيدة، وإجهاض دور الثورة، والتي حررت الإرادة الشعبية بالكامل.