كانت الدولة البوليسية هى خط الدفاع الأول عن الدولة العلمانية، وممثلها مبارك وأهله وجماعتهما. ولكن مع بدء الحراك النقابى خلال الثمانينيات والتسعينيات، وظهور الشعبية الهائلة للإسلاميين فى مختلف النقابات ونوادى هيئة التدريس، استشعر العلمانيون بمختلف أطيافهم (الناصريون واليساريون والليبراليون والملاحدة)، الخطر على علمانية مصر، وعمدوا إلى تدشين خط دفاع ثان يدعم الهيمنة الثقافية بهيمنة إعلامية، ويتمثل فى كيان وسائطى من وسائط دعاية (صحف وفضائيات) خاصة نشأت وترعرعت برضاء مبارك ورعاية جهاز أمن دولته. جميع رؤساء تحرير هذه الصحف ومقدمى البرامج وملاك الوسائط كانوا من المرضىّ عنهم أمنيا. وعندما وقع الاختلاف داخل البيت العلمانى بين الكيانين البوليسى والوسائطى، لجأ بعض الوسائطيين إلى جماعة (الإخوان) لكى تساعدهم فى التخلص من رفاقهم فى العلمانية. بالطبع كانت أغلبية الوسائطيين متخوفة من الاستعانة بالإخوان، لأن العواقب غير مأمونة. إلا أن قلة من الوسائطيين كانت ترى أنه بمجرد أن تستنفد الجماعة الغرض منها، سيتم التخلص منها، لأن الدولة العلمانية العميقة لن تسمح لإسلامى بالتمكن من حكم مصر. بتعبير آخر، فإن مشاركة قلة من الوسائطيين فى الثورة كانت على خلفية خناقة داخل البيت العلمانى الواحد، وليس على خلفية حقوق إنسان أو كرامة وحرية شعب. الدولة الوسائطية هى أكبر دليل على أن النظام العلمانى لا يزال قائما بقوة، وأن ثورة يناير نجحت فقط فى إزالة وجه واحد من العملة العلمانية، وأنها لا يمكن أن تكتمل إلا بتحرير مصر من الهيمنة والاستبداد الوسائطيين. ثورتنا إذن عالقة فى منتصف الطريق تحتاج إلى حلول فارقة، خاصة بعد تصالح وتحالف طرفى الدولة العلمانية، وانضمام القوتين الضاربتين.. ضباط أمن الدولة وفلول مبارك من ناحية، وقيادات الصحف الخاصة ومقدمو البرامج الحوارية من ناحية أخرى. وإذا انتهت الثورة بانتصار هؤلاء فسنعود إلى زمن الحظر والإقصاء، ولكن هذه المرة سيكون القمع أشد قسوة؛ مستندا إلى رغبة مسعورة فى الثأر من الإسلاميين. وحيث إن الوسائط قادرة على جعل الحبة قبة، والقبة حبة، والتعتيم على أحداث مهمة، والتضخيم والنفخ فى أحداث تافهة، سيعمد الوسائطيون إلى التعتيم على انتهاكات حقوق الإنسان التى يقوم بها حلفاؤهم البوليسيون، وسنرى حملات دعائية لتفسير القسوة ضد الإسلاميين وتوفير الغطاء السياسى اللازم لها لتأمين هدوء مجتمعى بشأنها. هذا التحالف الشيطانى لن يستطيع الإخوان وحلفاؤهم من الإسلاميين والوطنيين التصدى له بمعزل عن الشعب. إن استكمال الثورة يحتاج إلى ثورة شعبية أخرى.. ولكن ليس عن طريق الحركة فى الميادين والشوارع، وإنما عن طريق نشر الوعى بحقائق ما يجرى، وترجمة ذلك إلى أصوات فى الصناديق. إن غالبية الوسائطيين، ومن يقفون وراءهم وأمامهم فى جبهة الخراب وغيرها، هم فى الجوهر والمضمون صهاينة. ومن ثم فالانتصار عليهم لن يكون إلا بنفس الوسيلة التى نحتاجها لكى ننتصر فى النهاية على إسرائيل.. الحصار والتحجيم وفضح الحقائق وإجهاض الأهداف، مع كثير من الصبر والجلد والمثابرة والفطنة والكياسة، والامتناع عن إطلاق الألسنة بتصريحات لا تجلب إلا المشاكل، وتوفر ذخيرة للوسائطيين يستخدمونها من أجل التدليل على صحة أباطيلهم وصدق أكاذيبهم. إن الأكاذيب والشائعات التى ينشرونها بكثافة مذهلة، يقف وراءها جهاز محترف فى مكان ما خارج مصر، يعمل بمنهجية ويوفر للوسائطيين كل ما يحتاجونه من ذخيرة عن طريق مواقع الإنترنت. هذا القصف الوسائطى اليومى بالأكاذيب والشائعات، مع أعمال الإرهاب والبلطجة فى مختلف مدن مصر، يستهدفان تكفير الناس بالثورة والديمقراطية، حتى إذا استوت الطبخة، يكون الشعب مهيأ وجاهزا لجميع الاحتمالات الانقلابية. شيطانية الوسائطيين والجهاز الصهيونى المحترف الذى يدعمهم لوجيستيا تتجلى فى حقيقة أن ما يفعلونه لا يستهدف مصر فقط، وإنما أيضا أعداء نظام مبارك الأزليين: حماس وقطر وفضائية (الجزيرة).. أى ضرب عدة عصافير فى وقت واحد. ولذا نجد حماس وقطر عنصرين أساسيين فى نسبة كبيرة من الأكاذيب والشائعات.. ولهذا أيضا شنت صحيفة مجدى الجلاد حملة دعائية ضارية على (الجزيرة) التى كانت الوحيدة صاحبة الفضل على ثورة يناير من ناحية دعمها بالأكسجين الإعلامى على مدار 24 ساعة يوميا، منذ انطلاقها وحتى خلع مبارك. نحن الآن بصدد معركة فاصلة بين ثورة عالقة وأخرى مضادة، الشعب هو العامل الفاصل فيها. والطرف المنتصر هو الطرف الذى سينحاز الشعب إليه فى النهاية فى صندوق الانتخابات. إن عزوف الناس عن التصويت فى الانتخابات القادمة سيعنى أن الثورة المضادة نجحت فى تكفير الناس بالثورة والديمقراطية، أيا كانت نتائج الصناديق. إن كل ما تحتاجه الثورة المضادة، بالإضافة إلى مقاطعة جبهة الخراب، هو مقاطعة الناس عملية التصويت، لكى توفر ذخيرة دعائية يدللون بها على "عدم شرعية" البرلمان، ويستدعون بها ضغوطا وعقوبات إقليمية ودولية. إنها حرب إرادات وعض أصابع بين أنصار الثورتين. وكلما كانت عضة الثورة الوطنية أقوى (أى وصول نسبة الناخبين إلى ما يزيد على ال60%)، أنجزنا الهدوء والاستقرار فى زمن أقل وأجهضنا آمال الصهاينة فى تركيع مصر. طالما أن الوقت لا يسمح بإنشاء وسائط دعائية مناصرة للثورة، وطالما أنه لا فائدة ترجى من قنوات "ماسبيرو"، فالحل يكمن فى إنشاء مكتبين إعلامى وقانونى تابعين لمؤسسة الرئاسة، تكون مهمتهما مواجهة الحرب الدعائية التى تعمل ليل نهار على غسل عقول الناس بترهات تصيبهم بالاكتئاب والإحباط. المكتب الإعلامى يتولى مهمة عاجلة تتعلق بتطهير عقول الناس من أكاذيب وأضاليل الوسائط وتقوية وعيهم بما يجرى.. والقانونى يتولى مهمة آجلة تتعلق باستنزاف الموارد التى تعتمد عليها هذه الوسائط. مهمة المكتب الإعلامى ستكون كالتالى: أولا: مراقبة كل ما ينشر ويبث فى الصحف والفضائيات، وعقد مؤتمر صحفى يومى الساعة الثامنة مساء كل يوم من الآن وحتى الانتخابات. فى هذا المؤتمر الصحفى يتولى المتحدث باسم المكتب الإعلامى الرد على كل الدعاوى، وتفنيد كل الأكاذيب ودحض كل الشائعات التى نشرت فى صحف الصباح وفضائيات الليلة السابقة.. ويكشف حقائق الدوافع والأهداف التى تختفى وراء هذه الأكاذيب والشائعات. هذا المؤتمر الصحفى يبث على جميع القنوات الرسمية والخاصة وتنشر تفاصيله فى الصحف القومية والخاصة، وأى فضائية تمتنع عن بثه يتم فضحها فى المؤتمر الصحفى التالى. ثانيا: التفتيش فى أرشيف جميع الصحف والفضائيات طوال العامين الماضيين، ورصد جميع المخالفات والتجاوزات لاستخدامها فى فضح وتجريس هذه الوسائط وكتابها وضيوفها أمام الرأى العام. ثالثا: التفتيش فى أرشيف الصحف القومية طوال أعوام ما قبل الثورة لفضح وتجريس أبواق مبارك الذين نافقوه وغطوا على فساده وفندوا مظالمه، ثم نراهم اليوم يتحدثون باسم الثورة والشعب. إن "البيزنس" الوحيد الناجح اليوم والمربح جدا فى مصر، هو "بيزنس" الوسائط. فكلما وقعت مصيبة يهللون لها لطما وولولة. وإذا لم تقع المصائب يختلقونها بمساعدة أسيادهم فى الخارج لكى يلطموا ويولولوا، فتنهال عليهم أموال الإعلانات وأموال المكافآت على أداء مهمة صناعة الفتنة بنجاح. والانتصار على الوسائط لن يتحقق إلا بجعل هذا "البيزنس" وبالا على كل القائمين عليه. وهنا يأتى دور المكتب القانونى، الذى ستكون مهمته رفع الدعاوى القضائية ضد مخالفات الوسائط الحالية والسابقة، بهدف استنزاف ملاكها ماديا عن طريق الغرامات الباهظة التى سيحكم بها القضاء، وتوجيه هذه الغرامات إلى خزانة الدولة. وهكذا يتم توجيه الأموال التى كانت مرصودة من أجل خلق الفتن وإشعال الحرائق إلى عكس ما كان يأمله الملاك وأتباعهم وحلفاؤهم. سيقولون إنه لا يوجد فى العالم كله رئيس دولة ينشئ مكتبا قانونيا مخصصا لمقاضاة الوسائط. وهذا صحيح، كما أنه صحيح أنه لا يوجد فى العالم وسائط دعائية على هذا القدر من التدنى الأخلاقى والانحطاط الوطنى الذى يقترب من حد الخيانة، وأنه لا توجد فى أية دولة وسائط تتعمد حرق البلد وضرب اقتصاده من أجل إسقاط خصم سياسى. إن الرئيس منتخب من أجل حماية مصر من أعدائها فى الداخل والخارج. وأشد الأعداء خطورة الآن هم البلطجة والإرهاب والغوغائية الجارية فى الشوارع والصحف والفضائيات. والرئيس ملزم باستخدام كل الوسائل المشروعة المتاحة له من أجل حمايتنا من كل من يحرض على العنف ويشجعه ويمارسه من أجل ابتزاز تنازلات سياسية.