الفرق بين يومى 25 و28 يناير هو الفرق بين انتفاضة شباب وثورة شعب. اليوم الأول كان محصورا فى عدد قليل من المواقع، فى حين كان الثانى شاملا جميع مدن مصر. صحيح أن الثورة ما كان لها أن تتجسد دون انتفاضة الشباب، إلا أن الانتفاضة ما كانت لترتقى إلى ثورة دون مشاركة الشعب. فى علم الفلزات عندما يتشكل الطور الجديد فى السبيكة، تبدأ العملية بتخليق أنوية هذا الطور على "مواقع مفضلة" فى الطور القديم. وتنمو النواة بانضمام ذرات جديدة إليها، أو تتحلل وتذوب إذا فشلت الذرات فى اللحاق بها. هذا بالضبط ما كان يجرى قبل الثورة فى مظاهرات حركتى (كفاية) و(6 إبريل)، ومظاهرات الطلبة والأساتذة فى الجامعات. كانت كل مظاهرة عبارة عن نواة لطور جديد اسمه "مصر الحرة"، يحاول أن يتشكل بالوصول إلى "الحجم الحرج" الضرورى لاستقرار النواة وعدم تحللها. جميع هذه المظاهرات عجزت عن الوصول إلى الحجم الحرج بسبب عدم انضمام الناس (الذرات) إليها، وكانت أعداد المشاركين فى هذه المظاهرات لا تتجاوز العشرات أو المئات، ومن ثم كانت تتحلل فورا. سببان آخران حالا دون الوصول إلى الحجم الحرج هما عدم تخلق الأنوية على مواقع مفضلة، وعدم توفر "القوة الدافعة" لتخليق عدد كاف من الأنوية. فقط فى يناير 2011 -فى ظل مصرع خالد سعيد وسيد بلال وتزوير برلمان 2010 وسخرية مبارك من المعارضة وتفجير كنيسة القديسين- كانت القوة الدافعة قد وصلت إلى الدرجة المطلوبة لتمكين الطور الجديد. ما جرى أيام 25 و26 و27 يناير لم يصل بالأنوية إلى الحجم الحرج؛ لأنها لم تتخلق على مواقع مفضلة. فقط يوم 28 اجتمعت ثلاثة أمور فاصلة ارتقت بالانتفاضة إلى مستوى الثورة: توفر عدد هائل من المواقع المفضلة للتنوية (مساجد مصر التى انطلقت منها المظاهرات فى جمعة الغضب)، ووصول حجم كل نواة إلى الحد الحرج بالانضمام الشعبى الواسع إلى المظاهرات، واستسلام وانهيار جيش الاحتلال البوليسى. بعد مرور عامين على انطلاق الثورة يتضح أنه ما زال أمامنا وقت طويل لإزالة آثار ما أحدثه مبارك من تخريب على مدار ثلاثة عقود. ولأن المثالية لا وجود لها فى الحياة الواقعية، فإن الطور الجديد لم يستطع أن يستحوذ على السبيكة بالكامل، وانطلقت ضده مقاومة شديدة من الطور القديم. بتعبير آخر، منذ خلع مبارك، والتنازع قائم على الذرات بين الطورين القديم والجديد. لا تزال تجمعات الطور القديم موجودة وملتصقة بوسائط "الإعلام" ومؤسسات الداخلية والقضاء والتعليم وكل قطاعات الدولة الأخرى. الثورة نجحت بالتئام الأحجام الحرجة، وبقى عليها تطهير مصر قدر الاستطاعة من تجمعات الطور القديم حتى تنجز استقرارا حقيقيا. غير أن هناك ثلاث عقبات كبيرة تقف أمام إنجاز هذا الاستقرار: وسائط "الإعلام" ورغبتها المسعورة فى الهيمنة على القرار فى مصر بالحلول محل جهاز (أمن الدولة) من ناحية السطوة والنفوذ -العلمانيون وغوغائيتهم وهرولتهم للاستقواء بفلول وبلطجية وقتلة نظام مبارك- ومحيطنا الإقليمى والدولى المتربص بنا شرا، وعلى رأسه بعض دويلات الخليج. كان المجلس العسكرى يشكل عقبة رابعة، ولكنها بحمد الله زالت، وعاد العسكر إلى موقعهم الوطنى، احتراما للشعب وديمقراطيته الوليدة. كان لافتا أنه بعد أسابيع قليلة من خلع مبارك، ظهر فجأة عدد من الصحف والفضائيات بتمويلات مفتوحة من جانب رجال أعمال مرتبطين عضويا وسياسيا ووجدانيا بنظام مبارك. هذه الوسائط الجديدة، قامت لتدعيم الوسائط القديمة، مثل فضائية (دريم) وصحف (المصرى اليوم) و(الفجر) و(الشروق) وغيرها، كرءوس حربة للثورة المضادة التى حققت نجاحات مشهودة، مثل الإعلان الدستورى المكمل للمجلس العسكرى، وحل البرلمان المنتخب، وحصار قصر الرئاسة وقتل عدد من الشباب الطاهر أمامه. ولا جدال فى أن العقبات الثلاث اجتمعت وتلاقت مصالحها فى التخلص من العدو المشترك وإسقاطه من الحكم بأى وسيلة. ولا تزال المعركة على مصر جارية بين طرفين.. أحدهما مخلص للثورة، يريدها دولة ديمقراطية يقرر شعبها مصيره ومستقبله بكل حرية فى الصندوق الانتخابى.. والآخر خائن للثورة منقلب على الشعب، يريدها دولة وسائطية، تهيمن عليها الصحف والفضائيات، وحلفاؤها فى الأحزاب العلمانية ودويلة الإمارات. فقد ظن هؤلاء أن احتكارهم لوسائط "الإعلام" وطغيانهم عليها، يمكن أن يغنى عن انتخابات ديمقراطية حقيقية. هذه الأقلية التى يبادلها شعب مصر الازدراء، ظنت أنها بممارسة الشغب تستطيع أن تكرر نجاحات الأقلية اليهودية فى الولاياتالمتحدة، التى نقلت الديمقراطية من الشارع إلى وسائط "الإعلام"، ومنحت القائمين عليها من السطوة والنفوذ ما يمكنهم من رقبة أى سياسى لا يسير على هوى المؤسسة الصهيونية الحاكمة. فنسبة اليهود الأمريكيين لا تتجاوز 3% من تعداد الولاياتالمتحدة. ومع ذلك، تمكنوا مع حلفائهم المسيحيين الصهاينة، من تحويل الصحف ووسائط "الإعلام" الأخرى إلى منابر تمارس غسل عقول السذج والبسطاء الأمريكيين، وترويع المثقفين الوطنيين وتصنيع إجماع حول أكاذيب وأضاليل.. كل ذلك حوّل هذه الأقلية بما تمتلكه من سطوة ونفوذ إلى أغلبية وسائطية تفرض رؤيتها وأجندتها على الجميع. وربما هذا ما كان يقصده حمدين صباحى عندما وصف العلمانيين بأنهم أقلية كثيرة. وأختم بجزء من مقال جميل للكاتب البحرينى سعيد الشهابى (القدس العربى): "سرعان ما اتضح أن الماضى الأسود بقى معششا فى أوساط الأمة، يرفض إخلاء الساحة. وما لم يكن بالحسبان آنذاك أن ثمة خطة شيطانية للالتفاف على ثورات الشعوب العربية كانت قيد الإعداد، وأن الأموال النفطية العملاقة وضعت تحت تصرف القوى الغربية القادرة على التدخل لوأد الثورات أو احتوائها. وفى غضون شهور قليلة بدأ مشروع الثورة المضادة ينفذ على الساحة، فى غياب القيادات الشعبية القادرة على التصدى للتحالف الشيطانى المتآمر على تلك الثورات. فالقوى التى دعمت الاستبداد طويلا أعادت تسويق نفسها فى مظهر الداعم للديمقراطية والمشجع على التغيير. فمصر اليوم مثلا لا يمكن مقارنتها بما كانت عليه فى عهد حسنى مبارك من حيث الحريات والحكم وفق إرادة الجماهير. مع ذلك فالحملة ضد نظام الحكم لا تتوقف من قبل الثورة المضادة. ولا شك أن الإسرائيليين يشاركون فى توجيه هذه الحملة. هذا لا يعنى أن حكم الإخوان معصوم من الأخطاء، ولكن لا يمكن مقارنته بنظام مبارك. هذه الحرب المفتوحة لا تقتصر على تنظيم الاضطرابات السياسية والتظاهرات واستهداف دستور مصر، الذى إن سقط فستكون الثورة الخاسر الأكبر، بل من المتوقع أن يتواصل العبث السياسى ليمتزج بعبث فكرى وأيديولوجى حتى تتم شرعنة الانقلاب على الحرية والديمقراطية بأساليب براقة. وستظل المشكلة الدائمة متمثلة بإبقاء الخلايا السرطانية من الأنظمة القديمة لترتع وتنتعش فى ظل الأوضاع الجديدة بهدف القضاء التدريجى على ما تحقق من تغيير. إن الضعف الاقتصادى والحاجة إلى ضخ دعم خارجى، تطرح الآن كمبرر لمهادنة قوى الثورة المضادة والسعى لكسب ودها، الأمر الذى يضعف معنويات الثوار ويوفر لتلك القوى زخما معنويا وسياسيا. إن الثورة لن تكون ثورة ما لم تكن هناك مفاصلة مع الماضى الأسود، خصوصا مع قوى الظلم والاستبداد التى لا يمكن إصلاحها وإن تغيرت أشكالها وأزياؤها. وثمة سعى حثيث لإظهار نظامى الحكم فى كل من مصر وتونس تارة بالضعف وأخرى بالتراجع وثالثة بقمع الحريات، ورابعة باضطهاد المرأة، وخامسة بالديكتاتورية. إنها بعض أساليب الثورة المضادة التى لا بد من وعيها ومنع نجاحها فى حرف مسارات التغيير".