حتى يناير 2011، كانت مصر مشهورة بإبداعها فى مجالين: تزوير الانتخابات وفرعنة الحاكم. وكان الظن أن الثورة ستتكفل بوضع حد لهذه السمعة السيئة. غير أن الوضع الذى وصلنا إليه اليوم يؤكد ليس فقط أن الإبداع فى المجالين السابقين احتفظ بزخمه، وإنما أيضا أضيف إليه إبداع فى مجال ثالث، وهو الثورة المضادة. هذا الإبداع الأخير، الذى تفوقنا فيه على ما أبدعته الثورات المضادة فى رومانيا وغيرها من الدول التى أجهضت ثوراتها، ستؤلف عنه حتما كتب ودراسات. إن استبدال تزوير الانتخابات بالانقلاب عليها، أكد أن الإبداع المصرى قادر على التكيف مع أى ظروف مستجدة والتناغم معها بما يحقق الهدف نفسه فى النهاية، وهو إهدار إرادة الشعب، وما دام ظل هذا الهدف مقدسا فإن العودة إلى التزوير فى المستقبل القريب ليست فقط محتملة، بل مؤكدة مع تبدل الظروف. لقد ولدت الثورة المضادة تحت رعاية وعناية المجلس العسكرى، الذى غذاها وأسبغ عليها حمايته حتى نمت وترعرعت، على الرغم من الحصار الثورى المفروض عليها، واستطاع أن يصل بها اليوم إلى أن تكون هى المحاصرة للثورة والمنتمين إليها. هذا المخطط ما كان له أن ينجح دون الاحتفاظ بهياكل وأنظمة المؤسسات الأمنية والقضائية والإعلامية كما هى دون تغيير.. ما كان له أن ينجح دون منح قتلة الثوار وأعوانهم، خلال الأسابيع والشهور الأولى من الثورة، الوقت الكافى لإتلاف وفرم وإحراق كل الأدلة التى يمكن أن تؤثر سلبا على المؤسسات الثلاث.. ما كان له أن ينجح بفلول مبارك بمفردهم، ودون دفع النخبة العلمانية "الثورية" إلى أحضان الفلول ومعسكر الثورة المضادة، وذلك باستثمار الكراهية الكامنة فى صدور العلمانيين ضد الإسلاميين وتوجيهها إلى هذا الهدف.. فالعلمانى لديه بالضرورة قابلية عالية للإفساد والاستبداد، ومن ثم فإن مكانه الطبيعى هو فى المعسكر الكاره للشعب والمحتقر لإرادته، وهو ما تجلى فى الموقف الرافض لنتيجة استفتاء 19 مارس. ومن أجل دفع النخبة العلمانية إلى أحضان الفلول، كان لا بد أن يبدو المجلس العسكرى وكأنه منحاز إلى الإخوان لكى يفاقم الغضب العلمانى، ويؤجج كراهيته العنصرية للإسلاميين، وكل ما كان مطلوبا فى هذا الصدد هو إطلاق الحرية للإسلاميين وإجراء انتخابات نزيهة، لكى يُتهم بالانحياز إلى الإخوان و"عقد الصفقات" معهم و"تسليم البلد" لهم.. هذه الخطة حتى اليوم ناجحة بامتياز بفضل المشاركة الفعالة فيها لجماعة مبارك فى المؤسسات الثلاثة: الانفلات الأمنى، والمرورى، وانتشار البلطجة، شيطنة الإخوان إعلاميا واغتيالهم معنويا، عقد جلسات المحاكم بالطلب، وصدور الأحكام الجاهزة. فى الوقت نفسه، لم يمانع العسكر فى تغيير القيادات الجامعية والنقابية؛ لأن الانتخابات فى هذه الحالة تدعم الصورة المخادعة التى حرصوا على أن يبرزوها للثوار، وهى أنهم مع التغيير. طبقا لمخطط رعاية وتسمين الثورة المضادة، فإن تزوير الانتخابات بمعاونة المؤسسات الثلاثة، يمكن اللجوء إليه فقط عندما تتجه نية العسكر للاحتفاظ بالمجلس المنتخب.. أما إذا كانت النية معقودة للانقلاب عليه، لأن الطبخة لم تستو بعد، فلا داعى للتزوير. وطبقا للمخطط أيضا، فإن التلاعب بالألفاظ يمكن بسهولة أن يستكمل عملية خداع الرأى العام.. فمن كثرة ترديد المصطلحات الخادعة فى الصحف والفضائيات العلمانية، أصبح المواطن العادى يرددها بتلقائية: فالعلمانى صار ليبراليا، والحزب ذو المرجعية الإسلامية صار حزبا دينيا، والدولة المدنية صارت دينية، والمستبد صار ديمقراطيا، وهكذا.. ومن ثم لن يكون صعبا تحوير معسكر الثورة المضادة ليصير معسكر الثورة، وتحوير معسكر الثورة ليصير معسكر الإرهاب والأخونة. وهكذا يُعاقب الشعب على ثورته.. فبدلا من الدولة البوليسية سيجد نفسه فى ظل دولة بوليسية/عسكرية. فى ظل الحماية التى وفرها له المجلس العسكرى، حال معسكر الثورة المضادة، كما أسلفت، دون إجراء أى درجة من التثوير والتطهير فى قطاعات الأمن والقضاء والصحافة والإعلام. ولهذا كانت الثورة عارمة من الفلول والثورجية من أمثال جمال فهمى، على قيام مجلس الشورى بتغيير القيادات الصحفية. وحتى بعد استلام القيادات الجديدة مناصبها، فإنها ستجد نفسها محاصرة وممنوعة من إجراء أى تغيير يؤدى إلى التأثير سلبا على الهيمنة العلمانية الكاملة على الصحافة القومية، الحماية العسكرية للثورة المضادة مكنت أيضا المنافقين الحاقدين على الثورة من مزاولة إبداعاتهم، وأطلقت ترزية القوانين وترزية الأكاذيب وترزية الأحكام للنهش فى الثورة وكل ما نتج عنها. فور خلع مبارك، التفت هذه القمامة البشرية حول المجلس العسكرى، ولم تتوقف منذ ذلك الحين عن الوسوسة وتزيين السلطة له، وكأن كل منهما يداعب الشيطان الكامن فى الآخر.. فهى تمتلك قرونا فائقة الحساسية تمكنها من التعرف على الحاكم القابل للفرعنة، والهرولة بعيدا عن أى حاكم أو شخصية غير قابلة للإفساد والفرعنة. هناك مثلا من طالب المجلس العسكرى صراحة بألا يتركهم للإخوان، وهناك من طالب وتوسل للعسكر بأن يشرفوا هم على وضع الدستور، وهناك من طالبهم بالبقاء عامين، وزايد عليه آخر بطلب بقائهم ثلاثة أعوام. نجحوا بامتياز فى فرعنة العسكر وتزيين السلطة لهم، كما نجح العسكر بامتياز فى دفع النخبة العلمانية إلى أحضان الفلول.. هذان الطرفان هما اللذان أنتجا لنا أكبر جريمة فى حق مصر وثورتها وديمقراطيتها الوليدة.. الإعلان الدستورى المخرب، وكأن مصر لا يكفيها ثلاثة عقود من التخريب الممنهج. إن ما وصلنا إليه اليوم من اصطفاف لمعظم الأحزاب العلمانية (المسماة زورا بالليبرالية) فى معسكر الثورة المضادة، وسعيها المستميت إلى إسقاط الجمعية التأسيسية المنتخبة، لصالح تمكين المجلس العسكرى من عسكرة الدولة عن طريق دستور "معلمن" يضعه فريق المرتزقة المتحلقين حوله، لا يعنى سوى أن هذه الأحزاب كانت تظن أن الثورة هى أداتها لالتهام الكعكة. فلما حال الإسلاميون، بتفويض شعبى، بينهم وبين الكعكة، اتجهوا إلى حليفهم الطبيعى ورفيقهم فى العلمانية.. فلول مبارك، مستقوين بالعسكر والقضاء المسيس والإعلام المسموم. ولم يبق بالتالى فى معسكر الثورة سوى طرفين: الأول هو الذى فجرها (حركة 6 إبريل)، والثانى هو الذى صانها وأنقذها (الإخوان المسلمون). أما باقى الأدعياء الذين قفزوا على الثورة، فإنهم الآن يتحولون عنها يوما بعد يوم، بعد أن أدى انتخاب الرئيس مرسى إلى تعميق حدة الفرز، إلى الدرجة التى لم يعد الأدعياء يطيقون معها الإبقاء على أقنعتهم. ولكن هل الإخوان أبرياء من وصول النكاية العلمانية فيهم إلى هذا الحد؟ ما أعرفه هو أن الفطنة والكياسة يتطلبان من المؤمن عدم مفاقمة كراهية عدوه له. لقد كان هدفنا الأقصى منذ خلع مبارك هو إزاحة العسكر عن السلطة. وكان يجب بالتالى على الإسلاميين تجنب أى استفزازات تساهم فى دفع العلمانيين -الواقفين على حرف الثورة- إلى أحضان الفلول والمجلس العسكرى. كانت أخطاء الإخوان قليلة، ولكنها فادحة، وكان يمكن تجنبها بإجراء بسيط، وهو توسيع دائرة الشورى بدلا من قصرها على مجلس شورى الجماعة. فما أعلمه بيقين مثلا، هو أن الإهمال والبلادة التى تعامل بهما النواب الإسلاميون مع تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى، وفرتا لكارهينا فى الصحافة والإعلام ذخيرة قوية فى حربهم ضدنا. هذا التعامل مع تشكيل الجمعية دل أيضا على غياب كامل للفكر الإستراتيجى الاستباقى فى التعامل مع الأعداء، وهو الفكر الذى يتطلب الحذر واليقظة الدائمين من أجل توقع ضربات العدو، واستباقها بعدم توفير ذريعة له ينفذ من خلالها لتعطيل مشروعى أو إحراجى ودفعى إلى موقع الدفاع عن النفس. إن مشهد التنازلات التى أقدم عليها النواب الإسلاميون إزاء الانسحابات المتكررة من الجمعية الأولى، كان مثيرا للشفقة، وكان مدعاة لمزيد من الغرور والعجرفة من الجانب الآخر. نعم هم حاقدون ولكنى كمؤمن كيس فطن، كان على أن أتجنب مفاقمة هذا الحقد وتأجيج النار المشتعلة فى قلوبهم إلى حد يندفعون عنده إلى حرق مصر، لا لشىء إلا لكى لا يحكمها الإخوان. وعلى الرغم من كل ذلك، يبقى فى النهاية مكر الله وإرادة الشعب، ونصر الله المشروط.