تلقيت دعوة كريمة من الإعلامى المهذب والمتميز أ/ حافظ الميرازى، المشرف على وحدة كمال أدهم للإعلام التليفزيونى لعمل ندوة فى الجامعة الأمريكية حول موضوع "الهجاء السياسى بين القبول والرفض" مع د. باسم يوسف، صاحب أشهر برنامج سياسى ساخر فى الوطن العربى، وهو "البرنامج"، الذى أصبح ظاهرة سياسية وإعلامية ساخرة تستحق الدراسة سلبا أو إيجابا. وقد قبلت هذه الدعوة ورحبت بها ثقةً بحسن خلق أطرافها الميرازى وباسم.. ولأن الموضوع جديد يستحق الدراسة والبحث، وقلت لنفسى: سأطرح دراسة مبسطة عن "فقه النقد الذاتى فى الإسلام".. فى مقابل طرح د. باسم لرؤيته النظرية وتجربته العلمية فى النقد السياسى الساخر. لقد تحدثت مع أ/ حافظ الميرازى على أن تكون الندوة نموذجا يقتدى ويحتذى فى الحوار بين الفرقاء السياسيين والفكريين، وقد وافقنى الرجل على ذلك، وراهنّا معا على خلق وأدب د. باسم الذى يحظى بشعبية كبيرة عن أمثالنا فى الجامعة الأمريكية، وقد كان الرجل عند حسن ظننا وأعطى نموذجا راقيا للخلاف السياسى أو الفكرى وقبول الرأى الآخر وكبح جماح أى محاولة من أى من الشباب الحاضر للإساءة أو إخراج الندوة عن سياقاتها الأخلاقية الراقية. وقد جلسنا الثلاثة معا قبل الندوة بنصف ساعة تبادلنا فيها الحديث الودى ودخلنا القاعة أنا ود. باسم بيدين متشابكتين؛ حتى نُعلِم الجميع أن اختلافنا الفكرى والسياسى لن يتحول أبدا إلى سباب أو شتائم أو صراع؛ بل سنقدم نموذجا حضاريا راقيا للحوار بين المختلفين فكريا والمتوافقين أخلاقيا، والمتحابين إنسانيا ومهنيا. وكان الحضور أكبر من المتوقع بكثير، فتم نقل الندوة إلى قاعة "باسيلى" وهى أكبر قاعة فى الجامعة الأمريكية، فضاقت هذه القاعة أيضا رغم سعتها الكبيرة، فقد حضر الندوة قرابة سبعة آلاف طالب لم يجد بعضهم مكانا يجلس فيه فوقف خارج القاعة، وبعضهم جلس على سلالم المدرجات، وبعضهم على الأرض، وبعضهم وقف خلف الصفوف. وقد حضر عدد قليل من أساتذة الجامعة الكبار، ومنهم أ.د/ عمرو عزت عالم الهندسة العالمى ووزير التعليم العالى الأسبق، وقد استطاع أ/ حافظ الميرازى أن يعبر بالندوة إلى بر الأمان، وأشرف مع فريق عمله على حسن إدارتها بدقة وحنكة وهدوء وقليل كلام وكثير حكمة. وكان من اللافت حرص د. باسم على التصفيق لى عقب كلماتى، وهذا من حسن خلقه. كما أنه طلب من القاعة أن تصفق لطالب من الجماعة الإسلامية سأله سؤالا قاسيا، فاستهجنت القاعة سؤاله "وصفّرت" ضده، ولكن القاعة استجابت لطلب د. باسم بالتصفيق له؛ لشجاعته الأدبية بين هذه الجموع الغريبة عليه، وكان هذا مسلكا حضاريا جيدا. ومما لفت نظرى أيضا أن طالبا كفيفا من الجامعة الأمريكية يجيد الإنجليزية والعربية، تقدم بسؤال لى باللغتين العربية والإنجليزية، وهذا يدل على حرص الجميع على حضور الندوة واهتمام طلاب الجامعة الأمريكية بالشئون السياسية والدينية. لقد تحدث أ. الميرازى فى البداية عن تاريخ الهجاء السياسى من أيام الفراعنة مرورا بالعرب وحتى أيامنا هذه، وساق أمثلة حية من التاريخ الأمريكى وأحكام المحاكم الأمريكية الخاصة بهذا الأمر. ثم تحدثتُ عن الحكم الإسلام فى النقد، وبدأتها بسؤال مهم: هل يجوز نقد الحركات الإسلامية أو الحكم ذات المرجعية الإسلامية؟ وللإجابة على هذا السؤال ينبغى أن نفرّق بين الإسلام المعصوم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبين الحركة الإسلامية البشرية غير المعصومة، وبين الإسلام المعصوم والحكم الإسلامى غير المعصوم، وبينه وبين الإسلامى غير المعصوم، وبين الفكر الإسلامى غير المعصوم. وهذا التفريق المهم جدا هو المدخل الرئيسى والأساسى لفهم قضية النقد فى الإسلام. فنقد الحركة الإسلامية غير المعصومة جائز، شريطة أن يكون نقدا موضوعيا، وذلك لأنها حركة بشرية تخطئ وتصيب، فيها النجاح والإخفاق، فيها النصر والهزيمة، ولكن لا يجوز نقد الإسلام المعصوم؛ لأنه وحى السماء. وكما يجوز نقد الحركات الإسلامية يجوز أيضا نقد الحكم الإسلامى ونقد الفرد الإسلامى، لأن هؤلاء بشر يصدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم-: "كل بنى آدم خطّاء وخيرُ الخطائين التوابون". كما أن الإسلام ليس فيه متحدث حصرى ووحيد باسمه، وذلك بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحى. هذا التفريق يفيد الإسلاميين، فلا يعدّون أن من ينتقدهم بحق وصدق ينتقد الإسلام، ويفيدهم كذلك فى قبول هذا النقد البناء المبنى على قواعد منضبطة وحقائق ثابتة. وهذا التفريق يفيد خصوم الإسلاميين أيضا من العلمانيين والليبراليين؛ حيث يلزمهم بألا يقفزوا من نقد الإسلامى غير المعصوم إلى نقد الإسلام المعصوم. والسؤال الذى يلح علينا جميعا الآن: ما موقف الإسلام من النقد عامة ومن النقد الذاتى خاصة؟ وهنا يمكننى الجزم بأن الإسلام هو أعظم دين على وجه الأرض دعا إلى النقد الذاتى، وحث عليه، وربطه بيوم القيامة، "لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ".. وهى النفس التى تنقد ذاتها، وتلوم نفسها، وتراجع نفسها. وهذا سيدنا موسى عليه السلام يعتذر للخضر عليه السلام قائلا: "قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً". وهذا آدم عليه السلام يراجع نفسه ويستغفر ربه، قائلا: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ". وهذا العبقرى العظيم عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول لقاضيه أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه فى حِكمة تَهدى الزمان بأسره: "لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعتَ فيه نفسك وهُديت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم". وقد أطلقها عمر مدويةً عبر الأجيال "أصابت امرأة وأخطأ عمر". النقد المر ثم تحدثت عن مرارة النقد فقلت: نقد الآخر مُر وشاق على النفوس ومؤلم لها، فالنقد مر فلا نزده مرارة بجفوة أو غلظة أو سخرية أو تجريح، النقد مر فلا نزده مرارة بالاستهزاء والسخرية من الناس، فالنقد البناء لا علاقة له بالسخرية التى لا تقرها كل الأديان "لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ". النقد مر، فلا نزده مرارة بافتقاده للعدل والإنصاف، النقد مر فلا نزده مرارة بالتشهير بأى إنسان وجمع كل مثالبه وغمطه كل حسناته. النقد مر، فلا نزده مرارة بأن نستهدف حياة الإنسان الخاصة أو خِلقته أو أموره الذاتية، النقد مر فلا نزده مرارة بأخذ صورة مجتزأة من الواقع والتركيز عليها، النقد مر.. فانقد الفكرة والعمل.. ولا تهتم بالنقد الشخصى. ثم تحدث د. باسم يوسف، وقال: "إننى لم أنقد الإسلام أبدا، ولا يمكن أن أنقده، ولكنى مُصرّ على نقد الحركة الإسلامية.. خاصة التى وصلت إلى السلطة، ومَن وصل إلى السلطة فعليه أن يتحمل النقد ما دام صحيحا"، ثم توالت الأسئلة والإجابات حتى انتهت الندوة بسلام.