إنه لمن الخطأ الجسيم أن يظن البعض -ممن يثبطون الهمم- أن المحن ليست أمرًا طبيعيًّا على طريق النصر، بل يقولون إنها تُولِّد رجالا لا يصلحون لقيادة، ولا يفيدون فى توجيه، وكأنّ المحن فى نظرهم سُبَّة والثبات معرَّة ونتائجها سلبية لا تفيد الجماعة المسلمة بل تعوقها، ومن ثم فهم يردِّدون: فحذارِ حذارِ من هذه المحن، وإياك أن تتعرض لمحنة تصل بك إلى السجن أو الحبس أو غيرهما، فإن من ولج هذا الطريق قضى نحبه، وماتت عزيمته، وضاع جهده، وتلوَّث فكره، ونقص عقله، وانتهت صلاحيته، وكأنَّ أمر البلاء من كسب البشر وليس من قرين الإيمان لا دخل للعبد فيه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُبتلى المرء على قدر دينه فإن كان فى دينه صَلابة زِيدَ له فى البلاء))، بيَّن ذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقال أيضًا: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)). إن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ما قامت دولتهم وما شُيِّدت حضارتهم إلا بعد ابتلاء وشدَّة وحبس فى الشِّعْب واستشهاد للرجال وإخراج من الأرض، وهذه سُنَّة الله عز وجل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً. ومن أجل ذلك قصَّ المولى سبحانه وتعالى على رسوله القصص، وبيَّن له أن ما من رسول ولا نبى إلا وابْتُلِى بالشدَّة، بل محاولة القتل ليثبت الفؤاد ولتستبين السبيل {وكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِى هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وهذه سورة يوسف ذات الطابع المكى فى موضوعها وجوِّها ومعانيها التى نزلت فى الفترة الحرجة الموحشة والغربة، والانقطاع فى جاهلية قريش -من عام الحزن- الذى عانت فيه الجماعة المسلمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشدة، ونزلت هذه السورة لتُسَرِّى عن الرسول وصحابته الكرام وتبيِّن له سنة الله الماضية، سُنّة المحن التى تصاحب المؤمنين، وتبين له السورة ما أصاب يوسف عليه السلام من ابتلاءات شتى بدأت بمحنة كيد الأخوة، ومحنة الجُبّ والخوف والترويع فيه، ومحنة الرِقّ وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله، ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، ومحنة الإغراء والشهوة والفتنة، ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته فى قصر العزيز، ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق فى يديه وهو يتحكم فى أقوات الناس وفى رقابهم. كل هذه المحن والابتلاءات صبر عليها يوسف عليه السلام وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها، وخرج من هذه الابتلاءات جميعها معافى متجردًا، فلما أسلم وجهه لله تعالى وأخلص قلبه له أعقب هذه المحن النصر والتمكين {وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ ولِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. إنها سُنّة الله الماضية {ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلا رِجَالاً نُّوحِى إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّى مَن نَّشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ولَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 109-111]. أرأيت سُنّة الله عندما يستيئس الرسل، كما استيأس يوسف عليه السلام فى محنته الطويلة، جاءه بعد المكروه الذى رآه الفرج المرغوب، فكانت هذه السورة بلسمًا وشفاءً لما فى الصدور المؤمنة التى كانت تعيش محنتها وتنتظر التمكين لدين الله سبحانه، فأتاها النصر من حيث لا تحتسب. وهكذا تستبين سبيل المؤمنين فلا نصر دون بلاء قبله يفترق به الناس إلى فريقين، فريق يقول {مَّا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، أما المؤمنون الصادقون فيقولون: {هَذَا مَا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ومَا زَادَهُمْ إلا إيمَانًا وتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. - أشد الناس بلاء: لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، يرفع الله به منزلته ويغفر الله به منزلته ويغفر زلته، ويطهِّر به قلبه حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة فى نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))، لذا كان أشدّ الناس بلاء الأنبياء والرسل الكرام، ثم الأمثل فالأمثل. فهذا نوح عليه السلام يُبتلى فى ولده وفلذة كبده، ويستيقظ فى كيانه شعور الأبوة الملهوفة فينادى ابنه الآبق، نداء الأب المشفق من المصير المعروف، ويحول بينهما الموج فكان من المغرقين، وتستيقظ فى نفس نوح مرة أخرى لهفة الوالد المفجوع فقال: {رَبِّ إنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ وأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} [هود: 45]، إنه فلذة كبدى، وقد وعدتنى بنجاة أهلى، ووعدك الحق، فجاءه الجواب من ربِّ السماء فى صورة قاعدة أساسية فى التصور الإسلامى، أن القرابة هى قرابة العقيدة التى تربط بين المسلم والمسلم وليست رابطة النسب والقرابة، أو وشيجة الدم، ووعى نوح الدرس فأناب إلى ربه بعد أن وضحت هذه الحقيقة التى غابت عنه فى بلائه هذا، فيسرع إلى ربه مناجيًا {وإلا تَغْفِرْ لِى وتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ} [هود: 47]، ويشتد بلاؤه بكفر زوجته التى ضرب الله بها وامرأة لوط المثل {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]. إنها خيانة الطريق والرفيق، خيانة الدعوة والرسالة، خيانة الخلافة والأمانة، فيا له من بلاء شديد حين يبتلى المرء فى بيته وأهله وأقرب الناس إليه، وهكذا كان نوح يُصَبّ عليه البلاء صبًّا ألف سنة إلا خمسين عامًا، فصبر وصابر ورابط وجاهد، حتى جاء وعد الله تعالى.. فليت الدعاة إلى الله يَعُون درسه، ويستفيدون بسيرته. وما حدث لنوح حدث لإبراهيم عليهما السلام، فابتلاءاته كثيرة أشدها حين أمره الله سبحانه بذبح ابنه الحليم، فكانت الرؤيا بلاءين: بلاء لإبراهيم وبلاء لإسماعيل عليهما السلام {إنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ}، فصدقا الرؤيا واستسلما لأمر الله تعالى وانصاع إسماعيل للآمر سبحانه، وقال لأبيه {سَتَجِدُنِى إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، فكان ثمرة هذه الطاعة {وفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، وأتمَّ إبراهيم كلمات ربه ووَفَّى فى كل ما ابْتلِى به ابتداء من تركه من ذريته بوادٍ غير ذى زرع عند بيت الله المحرم إلى إلقائه فى النار التى صارت بردًا وسلامًا، فصار مثلا يُحتذى به وقدوة يُقتدى بها. أما يعقوب المحتسب الذى لا يعرف إلا الصبر على ما أصابه فكان يقول {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، قالها حين فقد حبيبته بعد فقدانه ولديه، فلم يشكُ بثه وحزنه إلا إلى الله تعالى، ولم يتوكل إلا عليه {إنِ الحُكْمُ إلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، فهو قدوة فى صبره وقوة تحمله على الضر، والتوكل على الله عز وجل، والرجوع إليه فى كل أمر. ومن كانت هذه شيمه، وهذه خلاله تنزلت رحمات الله عليه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. ولا تسأل عن بلاء ابنه يوسف عليه السلام فبلاؤه معروف، أُلْقِى فى الجبّ، وبيع بيع الرقيق، ثم اشتد البلاء به {ورَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاى إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]. ولما رأى برهان ربه ازداد توكلاً واحتسابًا، ولما دخل السجن نكاية له وانتقامًا قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَى مِمَّا يَدْعُونَنِى إلَيْهِ وإلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [يوسف: 33-34]، ومكَّن له فى الأرض وجعله على خزائنها، وأتته الدنيا وهى راغمة {وكَذَلِكَ نَجْزِى المُحْسِنِينَ}.