التضخم بكل بساطة هو تراجع القوة الشرائية للعملة؛ فقبل سبع سنوات كان المواطن يشتري (2 كيلو) من اللحوم ب"150" جنيها، لكنه اليوم يحتاج إلى 350 جنيها لكي يشتري نفس الكمية من اللحوم (2 كيلو)، وبالتالي فإن التضخم هو العدو الأول لأصحاب الدخول الثابتة من الموظفين في القطاعين العام والخاص وكذلك أصحاب المعاشات. لأن أصحاب المهن الحرة والتجار سوف يُحمِّلون المستهلكين قيمة أي زيادة تحدث وبالتالي يستطيعون التحكم في مستويات دخولهم وفقا لمعدلات التضخم؛ الطبيب مثلا يستطيع أن يرفع سعر الكشف من 100 جنيه إلى 150 جنيها أو أكثر، وكذلك المهندس والمدرس (الدروس الخصوصية)، والنجار والكهربائي والسباك، وكذلك تاجر الملابس أو أي سلعة أخرى يستطيع أن يرفع نسبة أرباحه بناء على حجم تراجع القوة الشرائية في العملة؛ فإذا كان يربح نحو 40% مثلا يمكن أن يرفعها إلى 50 أو 60% لتعويض تراجع القوة الشرائية للعملة؛ لكن الموظفين وأصحاب المعاشات لا يستطيعون فعل ذلك؛ وحتى الزيادات التي تقررها الحكومة لموظفيها وأصحاب المعاشات دائما ما تكون طفيفة وأقل بكثير من حجم ومستوى ارتفاع التضخم؛ وبالتالي يسقط ملايين المواطنين تحت خط الفقر، لأن دخولهم لم تعد تكفي لتوفير احتياجاتهم الأساسية من الطعام والملبس والمأوى وغيرها من الخدمات الصحية والتعليمية، وكلما ارتفعت الأسعار تزداد معدلات التضخم على نحو يسحق الفقراء والفئات الدنيا في الطبقة المتوسطة على نحو عنيف. وتشهد مصر حاليا موجة تضخمية تشبه تلك التي تلت اتفاق الدكتاتور عبدالفتاح السيسي مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر 2016م، حيث تراجعت قيمة الجنيه لأكثر من النصف وارتفع الدولار من نحو 8 جنيهات قبل التعويم إلى 19 جنيها في منتصف 2017م قبل أن يتراجع بفعل الدعم والمساندة من البنك المركزي. واليوم أجرى السيسي تعويما جزئيا بتخفيض قيمة الجنيه مجددا بنحو 17% وهو القرار الذي يرفع نسبة التضخم بشكل حتمي. تعويم الجنيه وما تلاه من ارتفاع أسعار الوقود والسلع الغذائية والخدمات، دفع التضخم إلى الارتفاع في يوليو 2017 حين سجّل المؤشر السنوي لأسعار المستهلكين 34.2% وفقا للجهاز الركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وإن كان كثير من الخبراء والمحللين يشككون في هذه الأرقام مؤكدين أن نسب التضخم الحقيقية أكبر من ذلك بكثير وأن أجهزة الدولة تتلاعب بالأرقام الرسمية على نحو يقلل من خطورة الأزمة للحد من الغضب الشعبي ضد سياسات النظام. فالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وهو الجهة الرسمية المنوط بها قياس التضخم يستخدم منهجية مضللة في حساب نسب التضخم؛ حيث يستبعد من مجموعات السلع التي يتم قياس التضخم على أساسها السلع الأكثر تقلبا وهي السلع الأساسية والتموينية التي يستكهلكها عموم المصريين وبكميات كبيرة. فالجهاز يقيس التغير في أسعار سلع وخدمات مثل المشروبات الكحولية والثقافة والترفيه والمطاعم والفنادق وإيجارات المساكن وأكثر من 1000 سلعة وخدمة يظل التغير في سعرها قريبا من الصفر، لينخفض، تبعا لهذه المنهجية، رقم التضخم العام، بالرغم من تضاعف أسعار السلع الأساسية في الواقع، وهي المنهجية التي ينتقدها خبراء الاقتصاد في مصر والعالم ويعتبرونها منهجية مضللة. وبسبب فساد منهجية جهاز الإحصاء المصري كما جرى سنة 2017م، اتهم خبير الاقتصاد الأميركي ستيف هانك، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة "جونز هوبكينز" ومدير مشروع العملات المضطربة بمعهد كاتو الأميركي، الأجهزة الرسمية في مصر بالكذب بشأن معدلات التضخم في مصر، مؤكدا أن معدل التضخم الحقيقي في مصر في منتصف 2017م يساوي 146.6% وليس 32% كما أعلنت الحكومة؛ مشككا في صحة الإحصائيات الحكومية الرسمية، علما أن المعهد الذي يعمل به هانك يحتل الترتيب 16 بين أفضل معاهد دراسات السياسات في العالم. ويحدث التضخم عندما ترتفع الأسعار على نطاق واسع. وتُعتبر عبارة «على نطاق واسع» هي المفتاح لفهم معنى التضخم على نحو صحيح، وحتى نفهم المسالة بشكل أكثر وضوحا، فعندما يتزايد الطلب على سلعة معينة نتيجة حملة دعاية أو ما شابه يزداد عليها الطلب؛ وبالتالي يرتفع سعرها وينخفض ثمن سلعة أخرى تراجع الطلب عليها؛ هذه التقلبات ثابتة وطبيعية وتحدث بشكل تلقائي في الأسواق. لكن «التضخم الجامع» وهو أكثر أنواع التضخم خطورة، يحدث عندما يرتفع متوسط سعر كل شيء يشتريه المستهلكون تقريبًا في توقيت واحد؛ (الغذاء المنازل الملابس الأجهزة المنزلية الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر السيارات خدمات الصحة والتعليم الخدمات الإلكترونية كالإنترنت الوقود والإيجارات وفواتير الكهرباء والمياه وتعريفة ركوب المواصلات وغيرها وما إلى ذلك)، كما يحدث حاليا في مصر والعالم، ولتوفير هذه الضروريات، يجب أن ترتفع الأجور والمرتبات بما يكافئ الزيادة في الأسعار (نسبة التضخم). فإذا ارتفع أسعار كل شيء بنسبة 10% يتعين زيادة الأجور والمرتبات بذات القيمة حتى تبقى القوة الشرائية للمستهكلين عند المعدل الطبيعي ويحدث التوازن في الأسواق، لكن إذا ارتفعت الأسعار مع ثبات الأجور والمرتبات، فإن القدرة الشرائية للمواطنين تتراجع، وبالتالي يزداد عدد الفقراء، ويصاب الاقتصاد بالحمى، ويطلق عليه الخبراء في هذه الحالة «الاقتصاد المحموم» أي المريض. لماذا؟ لأن القوة الشرائية للعملة تراجعت ولم تعد الدخول تكفي لسد احتياجات المواطنين الأساسية. أسباب التضخم متعددة أبرزها فشل السياسات المالية والاقتصادية كما يفعل نظام السيسي تماما، وكذلك هناك أسباب خارجية كمراحل تفشي الأوبئة والحروب كما يحدث حاليا حيث تتفشي جائحة كورنا منذ سنتين دون توقف ما صاحب ذلك من عمليات إغلاق واسعة لآلاف المصانع والشركات والمحال، ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليرفع أسعار الحبوب والطاقة إلى مستويات غير مسبوقة ما يرفع نسب التضخم على نحو لا يطاق. في هذه الأثناء يقف نظام السيسي عاجزا وهو الذي تعهد أن يرى المصريون مصر أخرى جديدة في منتصف 2020، وتحت شعار الجمهورية الجديدة يدشن النظام بروباجندا مستفزة لعموم المصريين؛ لأن هذه الجمهورية هي جمهورية الفقر والديون والفشل والقمع وتكريس الطبقية وانتشار الانتهازية والاحتكار وتفشي معدلات الجريمة والانتحار والطلاق؛ مصر تتفكك، وشعبها يسحق، تزداد فقرا وتخلفا، ويزداد حكامها غنى وثراء واستكبارا، ولا تزال الآلة الإعلامية للنظام رغم كل ما يعانيه الشعب زاعقة ومستفزة بحجم الأكاذيب التي تروجها حتى كفر الشعب بالنظام وبكل ما يمت له بصلة. العجيب في المشهد أن أجهزة السيسي تعلم كل هذه الحقائق لكنهم مرتبكون لا يعرفون ماذا يفعلون؛ فالأزمة أكبر من طاقتهم وقدراتهم، لعله عقاب الله على حجم الظلم والطغيان الذي تجاوز كل الخطوط { إن ربك لبالمرصاد}. اللهم نج مصر وشعبها بهلاك الظالمين والمتكبرين فيها أو بتوبتهم إن كانوا يستحقون التوبة.