وقف فى سوق النخاسة بقبة الغورى. صهيل الخيول، وحوافرها تدق الأرض، أضفت عليه هيبة. وقف ممسكاً ثلاثة ورقات، يخطب فى الناس، محذراً إياهم من مغبة النخاسة، مطالباً بالتخلّى عن تلك العادة الدميمة. تحلق الناس من حوله، فى البداية اهتموا بمن يخطب، بعد ذلك شغلتهم تجارتهم وتقاليدهم عن الفم الهادر، هتفوا ليسكتوه. لم يصمت، تعود أن الكلمة حرة طليقة، لا يمسكها إلا الموت. وعى ذلك الناس من حوله. قيّدوه، فى مكانه، على صليب من خشب سامق، لم يعبأوا بحديثه السادر، ولا وجهه الذى لم يصبه انقباض أو خوف. أخذ رجل ضخم الجثة والصوت فى إعلان مزاد، لبيع عبد جديد، لكنه ليس عبداً عادياً، بل هو الخاطب نفسه صاحب الوريقات الثلاث، وبيعه كذلك لن يكون عادياً، وإنما بالقطع. رغم غرابة الموقف، لم يتلعثم الخطيب فى خطبته، واستمر فى كلامه عن ضرورة الحرية، وحرمة الاعتياد ووجوب الحب وإعمال العقل. أمسك الرجل بشعر الخطيب، وقال هذا شعر خشن، لا فائدة ترجى منه، لكن البهائم قد تأكله، من يشتريه، قال رجل صاحب مزرعة: أنا أشتريه بنصف درهم. لم يزد أحد شيئاً، فأمسك الرجل بالمقص، وأجهز على شعر الخطيب الذى لم يحرك ساكناً بل انطلق يقول «الزهد صفة المؤمن، والإخلاص طوق النجاة». قبض ضخم الجثة على يديه، ورفعهما للناس منادياً: هذه يد تجيد الصياغة، حرفتها الكتابة. شخص كاتب الديوان إليها وأغرته، فهتف قائلاً: أنا أشتريها بعشر دراهم. نظر إليه شاعر ساخراً من القيمة المتدنية ليد تعرف كيف تكتب فى زمن ساد فيه الغثاء، فصرخ قائلاً: ثلاثون درهم. قطع الضخم اليد اليمنى، وأعقبها باليسرى، تناثرت الدماء وسقطت الورقات الثلاث، واحدة تلو الأخرى. أكمل الخطيب الخطبة كمن يحفظ وِرداً «لا تكتموا الشهادة، ولا تنقلوا الخوف إلى أبنائكم، علموا أصحابكم أن الشرف صفة الرجال، وأن المرأة صورة الحياة». غرس الضخم أصابعه فى رأسه، أشار لعينيه، قائلاً: هذه عين لا ترى بوضوح، لكنها تعرف ما تنظر إليه، فائدتها يخبركم عنها طبيب المدينة، الذى اكتشف طريقة تبصر العميان، فى حال اقتلاع مياه عين الآخرين. هجم على المكان، مجموعة يتخبطون الطريق، عيونهم فقدت البصيرة، ونداء ضخم الجثة، أثملهم برؤية الحياة بلون غير الأسود. بعد صراعات، ومشاجرات بيعت كل عين لرجل، بقيمة ستين درهم. والخطيب مستمر فى خطبته، لا يمنعه أحد «التدقيق فى التفاصيل يمنح الرؤية الواضحة». أنامه الضخم على الأرض، بعد سقوط يديه من على الصليب الخشبى، لا يلوى على الدماء التى علقت بجسدهما معاً، رافعاً قدميه، قائلاً: هذه قدم كان تذرع المدينة جيئة وذهاباً، مرتادة كل مكان طيب، وقاعدة عن كل مجلس خبيث، من يشتريها، ضامناً انتقاله إلى طيب المساكن. قال شاب طامح فى مستقبل سعيد، وحركة بها عنفوان يرضى غروره: أنا أنالهما بخمسين درهماً. بات الخطيب كالأرجوحة، لا ميزان يحد جسده، لكن اللسان وحده الباقى، يتحرك، متوحداً مع عقل صاحبه، منفصلاً عن الكون وما يحوى. أمسك الضخم بالفم، يخرس اللسان، يخرجه، يرغى الخطيب ويزبد، تتبعثر الكلمات. يقول الرجل: ها قد وصلنا لأغلى ما يمتلكه الرجل، لسانه، الذى ينمق الكلمات، وينظم الصفوف، ويحرك الرجال، لسان كالخيل التى تصهل من حولنا، تحملك إلى أى الطرق شئت، من يشتريه. كان أحد الوزراء ماراً بالصدفة، أرسل حارسه، الذى دق عنق ضخم الجثة فى ضربة سيف، وبالضربة الأخرى، قطع لسان الخطيب، وسط صمت الحاضرين، وجثة القتيلين.