وقالت الصناديق بعد عشرة أشهر من توليه الحكم: «إنا لمحظوظون»، وقالت لحظته التاريخية: «هو محظوظ أيضاً»، لكنه ليس محظوظاً إذا قسنا أنفسنا عليه!. انخرست الألسنة، ولم أعد أسمع سوى نباح قلة منبوذة من تجار الثورات والباحثين عن «لحسة» من عسل السلطة، والمرضى بوهم الديمقراطية: أحدهم يكتب يومياً فى صحيفة مستقلة كان يرأس تحريرها فى البداية، لا يهدأ ولا يقر له قرار إلا إذا هاجم «السيسى» (وصفه ب«المستبد».. آه والمصحف!)، وسخر من كل مشروعاته الكبرى (القناة والمؤتمر الاقتصادى والعاصمة الجديدة)، ويعارض مشاركة مصر فى حرب اليمن، وفى الوقت الذى يعانى من أرتيكاريا «سلطة 30 يونيو» على حد تسميته.. يصف مؤامرة «25 يناير» بأنها «تنزلت روحاً قدسية»، وهذا يعنى بالتبعية أنه يكره نظام مبارك، مع أنه شغل فى عهده منصب رئيس تحرير مجلة اقتصادية حكومية، وصحيفة حزبية، وحفيت قدماه تقرباً وتذللاً من الفريق أحمد شفيق، حتى بعد أن ترك مصر واستقر فى دولة الإمارات. وخذ المفاجأة: بعد أن ترك رئاسة تحرير الصحيفة المستقلة بنحو خمس سنوات.. شن عليها هجوماً ضارياً، ووصف صاحبها فى مقال بصحيفة مسائية حكومية بأنه -مثل مرشدى الإخوان «عاكف وبديع»- تجمعهم «راية الفوضى الخلاقة»، ووصف الصحيفة نفسها بأنها «تقود الحرب على أركان ومقومات الدولة القائمة -دولة مبارك طبعاً- وتبشر بدولة الإخوان»!. هذا الرجل يملك ناصية الكتابة، لكنه مع الأسف ينحدر نحو سلالة فهمى هويدى وعمرو حمزاوى وأمثالهما: كلام فخم، ضخم، يخفى بين سطوره المنمقة سموم حقد وكراهية لكل جهد. ولكل اجتهاد. وظنى أن عداءه السافر ل«سلطة 30 يونيو» لن يتوقف إلا إذا عزمته على شاى بالياسمين، وخرج من الاتحادية «معكوماً» -من «العكمة»- أو «منصوباً» -من «المنصب».. وهذا دأب الجيل الثانى من مرتزقة 25 يناير!. خلافاً لهذا النوع من الأصوات.. لم أعد أسمع نطعاً أو متحذلقاً أو كارهاً يقول إن عبدالفتاح السيسى «بلا رؤية أو برنامج». لم أعد أسمع سوى جملة واحدة يرددها عقلاء، منصفون، يحبون بلدهم بلا هوى أو مرض: «أعانه الله على مصر، وكفاه شر طابورها الخامس». لقد تسلم «السيسى» بلداً كاد يتعفن فى غرفة العناية المركزة. سنتان ونصف تقريباً منذ فاجعة 25 يناير ومصر «مغمى عليها»، وكلاب السكك تنهش فى لحمها. كانت أفضل حالاً بالطبع من دول ماتت وتقطعت أوصالها بفعل «الهباب العربى».. هذا صحيح. لكنها كانت أحوج إلى «صدمات» -لا رؤية ولا برنامج- لتستيقظ وتصلب طولها، وها هى بعد عشرة أشهر من توليه الحكم تقف متكئة عليه وحده: هو.. ولا أحد مع الأسف سواه، وتلك كارثة. لكن الكارثة الأكبر لو كانت قد ابتليت لاقدر الله بواحد من أصحاب الأجندات المتخمة برؤى وبرامج الربيع الصهيونى. تخيل أن خائناً هارباً مثل البرادعى، أو ثورجياً نحنوحاً مثل حمدين، أو إرهابياً منفصلاً متصلاً مثل أبوالفتوح، هو الذى يحكم مصر الآن وهى محاطة بهذا الحزام الإقليمى الناسف، وبكل تلك المعادلات والحسابات المعقدة، غير المفهومة. تخيل أن أحدهم يحكم شعباً غامضاً، حائراً ومحيراً، لا يرحم حاكماً ولا يترك رحمة ربنا تتولاه. لا يشارك فى مسئولية ولا يصون إنجازاً: إذا ثار انفلت عياره، وإذا هدأ واستقر مات إكلينيكياً!. بعد عشرة أشهر أثبت «السيسى للجميع» -وأقول إنصافاً إن أدوات الحكم التقليدية ربما لم تكتمل لديه بعد- أنه الأكثر تفانياً وجدية والتزاماً بشروط عقده الاجتماعى مع شعبه، ولم يعد «رئيس الضرورة» كما قال عنه الكاهن الأعظم «محمد حسن فى السلطة وحسن فى عكسها هيكل».. بل «رئيس الاختيار». يجتهد، ويقاوم طوفاناً من مكائد الداخل والخارج، ويلهث بين عواصم الدنيا ليعيد الهيبة إلى بلده. يخرج من مؤتمر بناء، مؤسساً لشرعية سياسية واقتصادية جديدة، ليشارك فى حرب ضد ميليشيات إرهابية تجتاح بلداً عربياً، وسط مخاوف وتحذيرات و«إحالات» مقلقة من الزج بجيش مصر فى معركة بعيدة، نصفها صراع مصالح، ونصفها «حرب وكالة». يقف بين الناس مهنئاً، ومواسياً، ويلاحق همومهم وشكاواهم، ويوصى بهم خيراً. يخوض معارك ضد «الوقت»، وضد جحافل الخونة والعملاء والمحرضين والمتربصين والمراهنين على فشله، وضد محاولات خنق مصر من جهاتها الأربع، وأخيراً.. ضد ميراث عميق من الكسل والاتكالية والانفلات وغياب المشاركة. يفعل كل ذلك بمفرده، ويكسب فى كل يوم أرضاً جديدة، والناس مصدقون لأنهم يحبونه ويشعرون بصدقه، لكنهم حين يختلون بأنفسهم ويتأملون أحوالهم يشعرون بأن شيئاً لم يتغير: الفساد يتوحش.. الغلاء يتوحش.. الإهمال يتوحش.. الظلم يتوحش.. و«المغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر». لم يعد سؤالهم: أين وعود وأحلام «30 يونيو» يا سيادة الرئيس؟.. بل أصبح السؤال: أى كائن غامض، سافل وحقير، يعمل ضدك ويحاول إجهاض هذه الوعود والأحلام؟. أى «طرف ثالث» يقف إسفيناً أو خازوقاً بينك وبين شعبك؟.. أين يكمن بالضبط، وفى أى رف من دولاب حكمك؟. لماذا تؤخر «لحظته» إذا كنت تراه، ولماذا لا تبحث عنه إذا كان يتخفى منك فى أدبك وسعة صدرك وانشغالك ببناء دولتك التى تحلم ونحلم بها؟. الناس يسألون، ولولا ثقل همومهم ولهاثهم وراء لقمة عيشهم لسألوا: أين رجال «30 يونيو» الحقيقيون يا سيادة الرئيس؟. لماذا همشوا وأبعدوا عن المشهد وكأنهم «خيل حكومة»؟. هل هذا جزاء من وقفوا فى ظهرك ودافعوا عن شرعيتك بالظفر والناب؟. من الذى سمح لكل هذه القرود والحشرات الضارة أن تسرح فى بلاط حكمك؟. سياسيون وإعلاميون ومثقفون ورجال أعمال و«خبراء» فى كل منحى -من «صحيح الدين» إلى «تسييخ الكفتة»- يحاصرونك ويتناسلون كالوباء حول مقعدك، وفوق ذلك: مسئولون ووزراء يتأبطون قراراتك وتوجيهاتك، ويعيدون إنتاج خطابك المفرح، المتفائل، إلى شعبك.. ضباباً وبلبلة وإحباطاً؟. خلاصة الشهور العشرة: رئيس مخلص، وطنى، وشعب حمال أسية، وبينهما «بزرميط». لا وزير ولا مسئول ولا بنى آدم واحد فى دولاب عمل الرئيس يصلح أن يكون جسراً آمناً بينه وبين شعبه. الرئيس فى كابينة قطار، وجهازه الإدارى فى العربة الأخيرة، والشعب فى المنتصف.. فى الفراغات الفاصلة بين العربة والتى تليها. واقف زنهار، منبوذ، بينما نخبة الحكم جالسة فى مقاعدها الوثيرة، تتطلع من نوافذ بزجاج مزدوج إلى مصر البائسة، الشقيانة، الموبوءة. إلى من يتحدث الشعب إذن؟.. للرئيس طبعاً. إلى من يشكو بعد الله؟.. للرئيس. مع من يناقش فكرة أو اقتراحاً، وعلى من يعرض مشروعاً؟.. على الرئيس. ممن يطلب عوضاً عن وظيفة ضاعت أو ابن اختطف أو تحويشة سرقت أو زرعة بارت أو جاموسة نفقت؟. من الرئيس طبعاً. أليست تلك كارثة؟!.