فى عالمنا المعاصر لا يوجد فى السياسة الدولية مناطق بيضاء وأخرى سوداء تفصل بينها خطوط واضحة، لكن الذى يوجد عادة ظلال رمادية كثيرة، تتدرج فيما بينها وتختلف فى مساحاتها من ظل لآخر، وتتداخل مع بعضها بطريقة يصعب معها فى بعض الأحيان ترسيم حدودها.. وتتفاوت هذه المساحات فى درجة رماديتها حسب قربها أو بعدها من الطيف الأبيض أو الأسود.. وغالباً ما تتغير المساحات الرمادية، حدة وشكلاً وتداخلاً مع الوقت.. لذا، يبدو رؤساء وزعماء الدول وهم يواجهون أزمة أو مشكلة، على المستوى الدولى أو الإقليمى، كأنهم يتحركون وسط حقل ممتلئ ألغاماً من كل شكل ولون.. ومن هنا يبدو اتخاذ القرار المناسب أمراً صعباً للغاية.. نعم نحن نعلم أن أى قرار له إيجابياته وسلبياته، لكن وضوح الرؤية، والشورى، وتوخى المصلحة الوطنية والقومية عادة ما يعظم من إيجابيات القرار ويقلل من سلبياته. تشغلنا هذه الأيام مسألة «عاصفة الحزم»، وهل كان على مصر أن تشارك فيها أم لا؟ وهل وقعت مصر فى فخ الصراع السنى - الشيعى بإقدامها على هذه المشاركة؟ وما المدى الذى يمكن أن تصل إليه، بمعنى: هل من المتوقع أن يصل الأمر إلى المشاركة بقوات برية؟ وهل من المتوقع أن يجر ذلك إلى مواجهة مع إيران؟ وما أثر ذلك كله على مستوى المنطقة؟ أسئلة كثيرة تتردد على ألسنة البعض من الكتاب والمحللين السياسيين.. فى الواقع، يقع البعض فى خطأ كبير عندما يعتبر ما يحدث فى اليمن هو صراعاً سنياً - شيعياً وليس صراعاً سياسياً.. إن إيران لها مشروعها السياسى.. هى تحلم بتكوين إمبراطورية فارسية، على حساب الفراغ أو الضعف أو اللامشروع العربى.. هى تستخدم التشيع ليمكنها من التماسك الداخلى على المستوى المجتمعى العام، ولأنه يمثل الطاقة المحركة للاندفاع نحو تحقيق الحلم فى إنشاء الإمبراطورية الفارسية.. لقد نجحت أمريكا خلال العقود الماضة أن تحول الصراع العربى - الإسرائيلى إلى صراع عربى - عربى، عندما أغرت «صدام» بغزو الكويت فى أغسطس عام 1990، ونجحت فى تحويله أيضاً إلى صراع سنى - شيعى، أو عرقى - مذهبى كما حدث فى العراق عقب احتلالها فى أبريل عام 2003.. وعندما جاء «بريمر» قام بتفكيك مؤسسات الدولة، بل وتسليمها إلى مجموعة شيعية تسلمت زمام الأمور وبدأ الصراع العرقى والطائفى والمذهبى يأخذ مداه.. ومع هذه النوعية من الصراعات تبقى النار مشتعلة إلى ما شاء الله، وهو ما تهدف إليه أمريكا وإسرائيل.. هذا يختلف كلياً عن أن يكون الصراع سياسياً، فها هنا يمكن التفاهم والتقارب لصالح كل الأطراف، بعيداً عن العقائد والتشنجات وحدة الانفعالات.. إن الخوارج هم أول من قام بتحويل الخلاف السياسى إلى خلاف عقدى، واستخدموا فيه السلاح.. وهذا لجهلهم وقلة فقههم وعنفهم.. فهل نريد أن نكون كذلك؟! ومن عجب أن «مرسى» عندما ذهب إلى السعودية أول مرة، أكد فى حديثه مع خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله)، وقوفه مع أهل السنة والجماعة، وكان واضحاً أنه فعل ذلك تقرباً وتزلفاً.. وعندما ذهب إلى إيران لأول مرة أيضاً، خطب فى ممثلى دول عدم الانحياز مفتتحاً حديثه بالصلاة والسلام على النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم بالترضى على أبى بكر وعمر وعثمان، وكأنه يخرج لسانه -من منطلق مذهبى- للإيرانيين فى عقر دارهم، على الرغم من أن كثيراً من الزعماء الحاضرين ليسوا مسلمين.. مرة ثانية أقول إن الرجل فعل ذلك تقرباً وتزلفاً للسعودية من ناحية، وللسلفيين المؤتلفين معه فى مصر من ناحية ثانية. إن ما قام به الحوثيون بالانقلاب المسلح على الشرعية الدستورية لحساب أو مصلحة دولة أخرى (إيران) تخطط لبسط نفوذها وهيمنتها على المنطقة، سوف يشعل ناراً فى كل أجزائها، فهل نتركهم يستكملون مخططهم، أم لا بد من الوقوف فى وجههم ومنعهم من تحقيق أهدافهم؟ إن التجربة المأساوية فى العراق تجعلنا نسارع إلى وأد الفتنة فى مهدها.. وقد بذل مجلس التعاون الخليجى -وعلى رأسه السعودية- جهداً كبيراً فى إيجاد حل سلمى للمشكلة اليمنية، لكن لا حياة لمن تنادى.. إن أمن مجلس التعاون هو أمن لمصر، كما أن سيطرة الحوثيين -أو بالأحرى إيران- على باب المندب تمثل خطراً يهدد أمن مصر.. ولو تطلب الأمر إرسال قوات خاصة وفى الحدود التى تقررها قيادات التحالف، فلا نرى بأساً من ذلك.. وفى اعتقادى أن إيران لن تغامر بالدخول فى معركة مباشرة مع العرب مجتمعين، لكنها من الممكن أن تثير قلاقل من خلال العناصر الشيعية الموجودة فى دول مجلس التعاون، وهذه يمكن السيطرة عليها. إن البعض من الكتاب يتخوفون من مشاركة مصر فى «عاصفة الحزم»، بدعوى أنها سوف تورط مصر فى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأنها دفعت إليها كنوع من رد الدين أو الجميل لمن ساعدها ولا يزال فى أزمتها.. البعض الآخر ينظر إلى المشاركة على أنها تشتيت وإنهاك وإجهاد لقوى وجهود الجيش المصرى، خاصة أننا نواجه حرباً شرسة من قوى الإرهاب فى مصر من الشرق والغرب، وبدعم من قوى دولية.. والذين يقولون ذلك يبدو أنهم لا يعرفون الكثير عن جيش مصر.. ربما لم تتح لهم فرصة أن يكونوا داخل صفوفه يوماً، ومن ثم هم يتكلمون عن شىء يجهلون حقيقته.. لذا من المهم أن نعرف الكثير عن هذا الجيش وعن التطور الهائل الذى حدث فيه، خاصة فى الفترة الماضية حتى نضعه فى المكانة والمنزلة اللائقة به.. إن الذين يقوّمون أداء الجيش المصرى -رغم قامته العالية- من خلال الهجمات التى يشنها الإرهابيون فى سيناء، يظلمون الجيش ظلماً كبيراً.. إذ لولا الكثافة السكانية فى شمال سيناء والأنفاق -غير الظاهرة التى يختبئ فيها الإرهابيون- لاستطاع الجيش أن يتخلص منهم فى سويعات، وليس فى أيام.. ويبدو أن تجربة الجيش المصرى فى حرب اليمن عام 1965 هى السبب وراء تخوف هؤلاء.. لكن السياق والظروف والمناخ الإقليمى والدولى، كل ذلك مختلف تماماً، كما أن الجيش المصرى بالأمس غيره اليوم. إن مصر جزء من الأمة العربية -قلب العالم الإسلامى- وقد حاول أعداؤنا وخصومنا على مدار التاريخ، البعيد والقريب، تمزيق شملها وتقطيع أوصالها.. وهى بهذه المشاركة تكسب ثقة الأشقاء العرب، حكومات وشعوباً، فضلاً عن أنه موقف تاريخى تثبت فيه مصر أنها جديرة بدورها المحورى والاستراتيجى على المستويين، الإقليمى والدولى.