هل ذهب العراق ضحية التدخلات الخارجية؟ وهل تحوّل إلى ساحة للصراع الإقليمى المذهبى العرقى؟ وهل ما يشهده الآن من تمزق وتدهور أمنى نتيجة غياب سلطة مركزية قوية قادرة على لم الشمل وفرض هيبة الدولة؟ وهل كان صدام بكل خطاياه ومصائبه قادرًا على تحقيق الحد الأدنى من ترابط العراق وبقاء البوابة الشرقية للعالم العربى قائمة.. على الأقل فى إطارها الشكلى؟ أسئلة كثيرة تتداعى ونحن نتابع أوضاع «الشر» الأوسط الجديد والعراق جزء أساسى منه رغم كل ما يعانيه من ويلات وصراعات وانفلاتات. وهنا نتساءل مرة أخرى: لماذا سقطت البوابة الشرقية للأمن العربى؟ ومن الذى أسقطها؟ وهل يمكن أن تعود؟! سقطت أولًا بأيدى أبنائها وسوء قيادتها الدكتاتورية التى تحكمت فى كل شىء.. من البشر إلى الحجر.. وهمّشت دور كافة القوى السياسية والمذهبية والحزبية.. بل إنها ألغت المشاركة الشعبية للعراقيين فى صياغة حاضرهم ومستقبلهم، وهذا نتيجة سيطرة حاكم مستبد على الأمور. هذا الحاكم كان يلعب مع القوى الإقليمية والدولية ولكنه تجاوز الدور المرسوم له.. وتخطى الخطوط الحمراء عندما هدد بإحراق أو تدمير نصف إسرائيل.. فإذا به يحرق ويدمر كل العراق ويتركه فى أسوأ حالاته وأخطر مراحله. سقط العراق أيضًا من خلال المصيدة التى صنعها الغرب عندما قام بغزو الكويت.. متجاوزًا كل التقاليد والقيم الإنسانية.. بل أثبت جهله بأبسط قواعد اللعبة السياسية فالغزو العراقى للكويت كان الوسيلة التى ابتكرها الغرب لجره إلى مصيدة تقع فيها واحدة من أقوى وأهم الدول العربية فى شرك المؤامرات ثم تم التمهيد لغزو العراق ذاته. وهنا غرس الغزاة بذور الفتن والشرور كلها وقبل ذلك تم تدمير الجيش الذى تباهى به صدام يومًا فأصبح قوة هُلامية لا تستطيع حتى مقاومة الإرهاب المزعوم الذى تحول إلى فزاعة أو وسيلة لإضعاف الدول العربية والإسلامية.. وللأسف الشديد فإن الكثيرين ينساقون وراء هذا الشرك الكبير فيتم تدمير الدول العربية الواحدة تلو الأخرى. أيضًا لعبت إيران دورًا أساسيًا فى الساحة العراقية منذ بدء الحرب الضروس بينهما خلال الثمانينات والتى استمرت سنوات استنزفت ثروات وقدرات الدولتين «الإسلاميتين» المهمتين. ولكن براعة التخطيط الإيرانى نجحت فى تجاوز كثير من المصائد والمؤامرات بينما وقع الطرف العراقى فى ذات المصيدة مرارًا حتى تم تدميره ووصل إلى هذا المصير. إيران نجحت فى إيجاد قنوات اتصال بل وإعداد قوى داخلية مذهبية لبسط نفوذها فى العراق وشاهدنا كيف استطاعت طهران اللعب على التناقضات المذهبية وتوظيف بعض الشخصيات والقوى الحزبية لخدمة مصالحها حتى فى ظل الغزو الأمريكى الغربى الذى ظن أنه نجح فى السيطرة على العراق بينما حدث العكس حيث قدم بلاد الرافدين هدية ذهبية سائغة لأبناء الفرس المخضرمين! بمعنى آخر.. فإن إيران كانت أكبر الرابحين من الغزو الأمريكى للعراق وفازت بأغلب الكعكة - وليس كلها - دون جهد أو ضرب أو حتى إطلاق رصاصة واحدة، فهى ليست بحاجة إلى هذا لأن هناك وكلاء لها يقومون بهذه المهمة!. واستغلت طهران سقوط نظام صدام بسرعة ودهاء ونجحت فى إحياء روافدها فى العراق.. بل وتوسيع دائرة النفوذ الإيرانى داخله على كل المستويات.. ونشأ ما يمكن أن نطلق عليه الصراع المذهبى «السنى الشيعى». السنى تدعمه دول الخليج.. والشيعى تسانده إيران مستفيدة من وجود حكومات شيعية موالية لها. فليس المهم تغيير الأشخاص المسئولين ولكن الأهم إحكام السيطرة على هذا البلد الحيوى الاستراتيجى انطلاقًا من تأمين طهران ويجب أن نعترف بأن هناك من العراقيين من ساعدوا إيران طواعية وبحكم الارتباط المذهبى على تحقيق الهدف. وكما أن السنة فقدوا مكانتهم على قمة السلطة فى بغداد.. بعد سقوط صدام فإن دول الخليج لم تنجح فى تقديم الدعم الكافى لضمان سيطرة السنة على سُدّة الحكم ولعل ما تشهده الأنبار والفلوجة والمناطق السنية فى العراق يعكس حالة الصراع المذهبى الإقليمى أكثر من كونها حربًا ضد الإرهاب. وهناك تناقضات كثيرة وعجيبة فى هذا الشأن.. لعل أبرزها أن هناك من يدعم بعض السُنّة المتهمين بالإرهاب.. وشيعة يبدو أنهم موالون للغرب. ثم بدأت مرحلة الوفاق الغربى الإيرانى بصعود روحانى إلى رئاسة إيران مع بقاء اللاعب الأساسى هناك «أحمد خامنئى» كمرجع شيعى أعلى وكحاكم أبرز يدير اللعبة السياسية من وراء الكواليس.. ويتم تصعيد قيادات وإخراج أخرى حسب الظروف والأدوار المرسومة بدقة ومهارة فائقة. ولعلنا نتابع مشاهد صعود وهبوط رفسنجانى وخاتمى ونجاد.. ثم أخيرًا روحانى.. فالكل يعمل فى إطار استراتيجية إيرانية محكمة بغض النظر عن تغيّر مواقع الأداء أو المهام التى يقومون بها. لذا عززت إيران نفوذها فى العراق بعد الاتفاق مع الغرب ليس نوويًا فقط بل إنه اتفاق استراتيجى يشمل الكثير من القضايا والملفات الحيوية بالمنطقة. وهنا يبرز ذكاء إدارة أوباما وذكاء الإدارة الإيرانية أيضًا فكلاهما نجح فى تجنب المواجهة كما حول العداء مع الشيطان الأكبر إلى وسيلة للخروج من أنفاق أزمات كثيرة.. أو على الأقل تجميدها وعدم تصعيدها، واستطاعت إيران تدعيم نفوذها فى العراق بشكل غير مسبوق باللعب على وتر محاربة الإرهاب.. هذه النغمة السائدة والمحببة فى الغرب الآن!. أيضًا فإن تداخل العلاقات الإقليمية خلق نوعا من توافق المصالح بين العراق ونظام الحكم السورى فأصبحنا نشاهد نظاما عانى من المذابح والإبادة خلال حكم صدام.. يؤيد نظامًا يمارس ذات الخطايا ضد الشعب السورى كما نرى دولًا سُنّية تدعم جماعات متهمة بالإرهاب فى العراق وسوريا.. إنها قمة التناقضات فى عالم غريب ومتغير.. وشرق أوسط جديد.. وعجيب. ولا ننسى دور إسرائيل فى تدبير المؤمرات ضد العراق والتخطيط لغزوه بل وضرب مفاعله النووى.. والأخطر من ذلك غرس بذور الحروب المذهبية والعرقية والدينية داخله. وهذا ما يخطط له أعداء مصر منذ عقود بل ومنذ قرون! صراع المذاهب بلغ ذروته ونشاهد آثاره المأساوية يوميًا فى كل أنحاء العراق الذى تحول إلى فريسة سهلة المنال.. على مائدة اللئام ومعركة الاعراق داخل العراق تجلت فى التقسيم الفعلى خاصة بإنشاء إقليم كردستان.. وربما يكون مقدمة لدولة كردية تشمل الأكراد فى المنطقة. هكذا يحلمون ويساعدهم أعداء الأمة.. ولكن أحلامهم سوف تصطدم بواقع شديد التعقيد وربما لا يبلغون أحلامهم ويتحولون إلى مجرد وسيلة لإضعاف الدول العربية الإسلامية التى يعيشون فيها. فهل يدرك أشقاؤنا الأكراد أبعاد هذه المؤامرة الخطيرة.. ويعلمون أنه من الأفضل لهم ولنا التعايش السلمى الواقعى داخل الدول التى يعيشون فيها مع إخوانهم العرب والمسلمين.. وتجاوز مؤامرات ومصائد الأعداء!. ويبقى السؤال الأهم: هل يعود العراق كما كان؟ وهل تعود البوابة الشرقية مثلما كانت حصنًا للعرب وخط دفاع أول ضد الغزاة والمتآمرين؟ أشك كثيرًا فى ذلك رغم أملى وطموحى فى عودة بلاد الرشيد إلى سابق عهدها ومجدها ولكن تكالب القناصة على الجسد العراقى أقوى من وحدته.. كما أن الظروف الإقليمية قد لا تساعده على استعادة مكانته اللائقة وأدعو الله أن تخيب ظنونى ولا تتحقق شكوكى.. حتى لا يكتمل «الشر» الأوسط الجديد.!!