من لا تقدر عليه الحروب تمزقه الفتن.. هذا ليس مثلاً شعبياً نستحضره في أوقات المحن، وإنما هى حقيقة دولية أليمة وحصاد مر لامبراطوريات سقطت بفعل فاعل، ولأمم فرقها التناحر السياسي والعجز الاداري في التعامل مع «مستصغر الشرر». ولأنه لن يرشدك مثل خبير، ولن تقنعك مثل مصائب الآخرين، ليس أمامنا سوى استعراض تجارب القريبة منا زمنياً وجغرافياً لندرك حقيقة ما يحاك لنا وإلي أي منقلب نحن منقلبون، وإلى أي درب نحن سائرون، أهو درب العراق أم لبنان أم البلقان؟ فالناجون من الفتنة أرهقتهم «المحاصصة» والغارقون فرقتهم الحروب العرقية.. وإلى التفاصيل.
مصر الطائفية بعيون غربية «واشنطن تبحث في ادعاءات تفيد بتورط أنصار للحكومة وجماعة الإخوان في التحريض ضد المسيحيين» ذلك ما أكده باتريك فينتريل المتحدث باسم الخارجية الامريكية ردا على أعمال العنف الطائفي التي شهدتها مصر. وقال فينتريل: «شهدنا بعض هذه الادعاءات.. ونحن نبحث فيها.. ولكننا رأينا بعضا من الشائعات، فعلى سبيل المثال، قيام بعض قوات الأمن بالمساعدة أو على الأقل بالوقوف جانبا دون التدخل أثناء هذه الهجمات.. ونحن نبحث في ذلك». وبصرف النظر عن المتورطين في إشعال الفتنة الطائفية ، فإن ردود الفعل الدولية تؤكد تدمير صورة مصر أمام العالم ، مما يعني توقع المزيد من التدهور في العلاقات الخارجية. أكدت «هيومن راتيس ووتش» في بيانها أنه نادراً ما يجري التحقيق بشكل صحيح في الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين أو يعاقب المسئولون. وطالب البيان بالتحقيق في فشل الشرطة في التدخل بشكل فعال لمنع تصعيد العنف خارج الكاتدرائية القبطية خلال مراسم جنازة قتلى الخصوص. وطالبت بمساءلة وزير الداخلية محمد إبراهيم عن أسباب فشل الشرطة في تطبيق القانون وحماية المعتدى عليه. وطالبت الرئيس المصري محمد مرسي بالاعتراف بمشكلة العنف الطائفي التي وصفتها بالعميقة وطويلة الأمد. كما طالبت منظمة «هيومان رايتس فرست» الحقوقية الأمريكية بضرورة محاسبة قوات الأمن التى فشلت فى أداء واجبها فى حماية المواطنين. وأكد نيل هيكس مستشار السياسة الدولية بالمنظمة أن تصعيد العنف الطائفى يمثل إشارة على تدهور الوضع الأمنى فى مصر الذى هو نتاج لجمود سياسى مستعصٍ على الحل. وتتزامن هذه المطالب مع تأكيد حكومة مرسي على استمرار وزير الداخلية في منصبه وترقية عدد من قيادات الداخلية، مما يعني أن الحكومة لا تدرك صعوبة الموقف الذي تواجهه أم أنها سعيدة بما وصل إليه الحال!! وهو الأمر الذي عبرت عنه منظمة العفو الدولية بالتأكيد على فشل السلطات المصرية مجددا فى حماية الأقباط من العنف الطائفى، مشيرة إلى أن الحكومات المصرية فشلت مرارا فى حماية المسيحيين وكنائسهم من الاعتداءات خلال العقود الماضية. وأضافت أن أقباط مصر واجهوا منذ بدء عام 2013، وتحت حكم مرسى ما لا يقل عن 6 اعتداءات على كنائس أو مبان تابعة لها، فى أسوان وبنى سويف والقاهرة والفيوم. وأشارت إلى عدم إجراء أى تحقيقات كافية أو اتخاذ أى تدابير لتجنب المزيد من العنف رغم وعود الرئيس مرسى. ووصفت هذه الإخفاقات بأنها انتهاكات لالتزامات مصر الدولية، بموجب قانون حقوق الإنسان الدولى، بحماية الأقليات من الانتهاكات وتقديم الجناة للعدالة. العراق: 3 دويلات و100 ألف قتيل تعد الفتنة الطائفية الآن فى العراق ما بين الشيعة والسنة بجانب التقسيمات العرقية التى يغذيها الاكراد، من احد ابرز النماذج للفتنة فى التاريخ المعاصر بدولة عربية على الاطلاق، فلا يكاد يمر يوم إلا وتقع أعمال عنف وتفجيرات ارهابية من الشيعة ضد السنة، أو السنة ضد الشيعة، لتستهدف تجمعات سكنية أو مدنية مثل الأسواق والاحياء السكنية المدنية حتى ان المدن العراقية تم تقسيمها من الداخل بناء على خلفيات مذهبية الى مناطق او ضواح للشيعة، وأخرى للسنة، وويل للطائفة التى تحاول دخول أو اختراق مناطق الطائفة الاخرى، وصار هناك دويلتان داخل الدولة، واحدة للسنة وثانية للشيعة، بجانب النعرة العرقية الطائفية التى أدت الى انفصال الشمال العراقى لحساب الأكراد، ووفقا للإحصائيات الدولية فقد أدت الفتنة الطائفية فى العراق الى مقتل اكثر من 100 ألف شخص خلال السنوات العشر الأخيرة. فنجاح الأكراد للانفصال فى الشمال، كان سببه ارتفاع نغمة النعرة المذهبية الدينية التى غذت النعرة العرقية، وقيام تنظيمات اسلامية بمحاربة الأكراد لتفرض عليهم فكرة الدولة الاسلامية، فسعى الأكراد بدورهم للانفصال عن الحكومات المركزية العراقية التي كانت تسعى لإقامة دولة ديمقراطية مستقلة في مناطق تواجدهم في كل من شمال سوريا وجنوب شرق تركيا وغرب إيران وشمال العراق، فيما كان أنصار السنة يسعون لإقامة دولة إسلامية على غرار ما فعله الإمام محمد بن عبد الوهاب في نجد، وايضا على غرار ما حدث في العصر الحديث في أفغانستانوجنوب الفلبين والإمارة الإسلامية في الشيشان سابقا. اشتعل الصراع بين السنة والشيعة داخل العراق بقوة منذ أن دخلت العراق فى حرب الثمانية أعوام ضد ايران الشيعية فى محاولة لمنع المد الشيعى والثورة الاسلامية من التغلغل اليها، ودخلت العراق هذه الحرب بإيعاز ومدد أمريكى، فبعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 تأزمت العلاقات السياسية بين العراق وإيران، وتبادل البلدان سحب السفراء، وفى سبتمبر 1980 اتهم العراق الإيرانيين بقصف البلدات الحدودية العراقية واعتبر العراق ذلك بداية للحرب، فهاجم صدام حسين فى سبتمبر عام 1980 أهدافا في العمق الإيراني، وردت إيران بقصف أهداف عسكرية واقتصادية عراقية، واستمرت الحرب 8 أعوام، وبعد أن وضعت أوزارها، بذل صدام حسين كل جهوده داخل بلاده لكبح جماح الشيعة، وتقليص نفوذهم وقوتهم فى بلده نكاية فى ايران وخوفا من مد الثورة الاسلامية الشيعية، لذلك كانت حدة الفتنة الطائفية خامدة فى عهده، لأنه كان يحكم البلاد بقوة هائلة، مكنته من رفع عصا التهديد فى وجه كل من يحاولون اشعال نيران الفتنة أو النفخ فى دخانها. لكن ايران كانت قد تمكنت من التغلغل فى العراق بقوة عبر تنظيماتها السرية وجماعاتها التى شكلت ميليشيات مسلحة، وقفزت بعد الغزو الأمريكي فرق الشيعة وتنظيماتها على السطح مستغلة مناخ التوتر والفوضى، وساهم فى تمدد الشيعة سقوط نظام صدام حسين، ومن ثم اعدامه، فجاء نظام عراقى مهتز فى ظل الاحتلال الأمريكى، نظام تسبب بصورة أو بأخرى بسياسته فى إفساح المجال للفتنة الطائفية لان تطل بوجهها فى أقبح صوره، واتهم البعض فى السنوات الماضية وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إي) بتأجيج الفتنة لتبرر بقاء قواتها في العراق، في حين رأى آخرون أن هذه الأحداث تعيق خطط امريكا في العراق واستقراره وبالتالي تحرج الإدارة الأمريكية، وعلى الجانب الآخر يتهم البعض ومنهم ساسة أمريكان وآخرون عراقيون، يتهمون الانصار السابقين لصدام حسين وايضا سلفيين بإشعال الفتنة الطائفية وتأجيج العنف، بل تتوجه اصابع الاتهام أحيانا لنظام البعث السوري بتشهيل مرور موجات الانتحاريين من دول عربية أخرى، بل ان هناك تأويلات حديثة فى واشنطن تتحدث عن وجود دور إيراني كثيف في تشكيل بعض ما يلقب بفرق الموت لتنفيذ عمليات قتل وتفجير ضد السنة، وفشلت بالتالى دعوة علي السيستاني المرجع الأعلى للشيعة في العراق لوقف الفتنة الطائفية وأصدر فتوى بتحريم الاقتتال الطائفي بين العراقيين بجميع طوائفه. وقد أدى الاقتتال بين الشيعة والسنة إلى مبادرة كل طرف بتشكيل ميليشيات عسكرية خاصة بها لمواجهة الطائفة الاخرى ولفرض نفوذها وعقيدتها، بجانب إنشاء المنظمات والاحزاب التى تدافع عن عن كل مذهب والتى تزيد على 30 تنظيماً وميليشيا تطاحن وتعترك فى العراق الآن لتفتت المشهد السياسى وتعصف بالاستقرار الأمنى، ففى الجانب الشيعى نذكر من هذه المنظمات والاحزاب والأذرع السياسية التى تضرب وتدافع بقوة السلاح وبضراوة سياسية عن العقيدة الشيعية لفرض تلك العقيدة على كل العراقيين، ويوجد فى الجانب الشيعى تيار الصدر وجيش المهدي ، ويسيطرون على مدن جنوب ووسط العراق، كما يوجد المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، القواعد الإسلامية، منظمة 15 شعبان وحركة حزب الله، النخب الإسلامية، حركة بقية الله، عصائب أهل الحق، حزب الدعوة الإسلامية، حزب الدعوة الإسلامية، تنظيم العراق، مجموعة الفضلاء، منظمة العمل الإسلامي، حزب الطليعة الإسلامي، يضاف الى ذلك عدة تنظيمات شيعية سياسية اخرى يطلق عليها قوى الانتفاضة الشعبانية التي اندلعت في 15 مارس 1991)، وتضم حركة الانتفاضة الشعبانية، حركة الانتفاضة الديمقراطية، الحركة الوطنية لثوار الانتفاضة، بجانب ميليشات مسلحة شيعية تورطت بقوة فى اعمال عنف طائفية منها جيش المهدي: الجناح المسلح للتيار الصدري، فيلق بدر: الجناح المسلح ل«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، عصائب اهل الحق، قوة البشمركة. وعلى الجانب الآخر، توجد أيضا عشرات المنظمات والاحزاب المنتمية للجماعات السنية والمدافعة عنها أيضا، منها قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وهى المسئولة عن الكثير من عمليات العنف الطائفي في العراق والتفجيرات الانتحارية في مختلف المدن العراقية وتتلقى دعما ماليا وبشريا من الخارج، ومنظمة دولة العراق الإسلامية، وهي مسئولة عن الكثير من التفجيرات العنيفة والاعمال الانتحارية في بغداد ومحافظات أخرى كان من أبرز عملياتها مجزرة سيدة النجاة التي استهدفت كنيسة في الكرادة ببغداد وتفجير البطحاء وكارثة جسر الائمة وغيرها من العمليات التي استهدفت الطوائف الأخرة، جيش أنصار السنة، أنصار الإسلام، جيش المجاهدين، الجيش الإسلامي في العراق، جيش الطائفة المتصل مباشرة بتنظيم «القاعدة»، تنظيم سعد بن أبي وقاص، فصائل المقاومة الجهادية، جيش محمد، الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية، كتائب ثورة العشرين وغيرها الكثير، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، لندلل على ان الفتنة الطائفية مزقت العراق فرقا وشيعا. ومما لا جدال فيه ان الغزو الامريكى للعراق اسهم بصورة مباشرة فى تأجيج اسباب الفتنة الطائفية، فكما سبق ووقفت أمريكا مع نظام صدام في حربه مع نظام الخميني خوفاً على مصالحها وحماية لمشاريعها، سعت أمريكا اثناء وجودها فى العراق عى مدى اكثر من 10 سنوات، سعت لبعث مشروع الهلال أو القوس الشيعي، وليس ذلك بالطبع لمصلحة الشيعة بل لاستخدامهم لمصلحتها فى حينه للقضاء على المقاومة العراقية التي كانت تصنفها أمريكا بأنها سنية، حيث أصرت امريكا منذ بداية وجودها فى العراق على إبراز مصطلحات لم تكن معروفة من قبل مثل المثلث السني أو المقاومة السنية، ولأن العراق بعد انفصال الشمال الكردى، بات مهددا بمزيد من التقسيمات بسبب الفتنة، فقد دفع ذلك رئيس الوزراء نورى المالكى الى التلويح برفع دعوى قضائية ضد مثيرى الفتنة فى البلاد من شخصيات سياسية وعشائرية، تلك التى تدعو فى خطاباتها إلى نفخ نيران الطائفية مستغلة خروج التظاهرات لتحقيق منافع حزبية وفئوية بإطلاق الشعارات التى تنادى بإلغاء الدستور وتقسيم العراق، واعادته إلى المربع الأول والاحتراب الداخلى تنفيذا لرغبات وأجندات خارجية لا تريد الاستقرار للعراق، ويؤكد المالكى ان هناك شخصيات سياسية وعشائرية تعمل وفق أجندات مشبوهة مدفوعة الثمن لزرع الفتنة الطائفية وتقسيم العراق فى مسعى منها لإسقاط الدولة العراقية من خلال إثارة النعرات الطائفية بين مكونات الشعب.