بين عامى 1994 و1996 شَهدتُ أبرزَ فصول الحرب التى خاضتها موسكو ضد الإرهاب فى الشيشان. نسبياً كانت العاصمة الشيشانية (جروزنى) لا تبعد عن مدينة (بياتيجورسك)، محل إقامتى فى الجنوب الروسى آنذاك، وبالتالى كان من الطبيعى أن تطالنا تداعيات حرب متعددة الساحات. تفجيراتٌ إرهابية وقعت فى مدينتنا وفى المدن المجاورة. خطف طائرات من المطار المحلى.. قيام الانفصاليين الشيشان باحتجاز العشرات من المرضى والعاملين فى مستشفى كرهائن للضغط على الكرملين.. كل ذلك كان يجرى بينما كانت المعارك تتواصل بين القوات الروسية والانفصاليين الشيشان فى المدن والقرى والجبال الشيشانية.. تكبد الروس خسائر فادحة فى الأرواح حتى رضخ الرئيس بوريس يلتسين فى النهاية ووقع على اتفاقية (خسافيورت)، التى كرست استقلالاً فعلياً لجمهورية الشيشان عن الاتحاد الروسى. كانت تلك هزيمة معنوية للروس قبل أن تكون عسكرية. فى المقابل كان الجميع فى روسيا وخارجها يعى جيداً أن الغرب لعب الدور الأكبر فى انتصار الانفصاليين الشيشان فى الحرب الأولى. كانت المعركة الحقيقية هى غرسُ شوكة فى الخاصرة الروسية. بعد انهيار الاتحاد السوفيتى اجتهدت واشنطن وحلفاؤها لتفتيت روسيا وتكرار سيناريو الاتحاد السوفيتى السابق. استخدمت كل الوسائل، لكنها راهنت بشكل أساسى على انفصال جمهورية الشيشان، حتى تفتح الباب أمام بقية جمهوريات الفيدرالية الروسية، لا سيما فى منطقة شمال القوقاز. استغلت ضعف الرئيس الروسى يلتسين وفساد حاشيته. ساعدت بالأموال والرجال. سهلت، عن طريق تركيا وأذربيجان وجورجيا، وصول (المجاهدين) من شتى البلدان إلى الجمهورية الشيشانية!.. أدار الغرب معركةً أخرى ضد موسكو فى أروقة المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، وعلى شاشات القنوات التليفزيونية، حتى تردد صداها على المنابر فى مساجد البلدان العربية والإسلامية التى كان أئمتها يبتهلون إلى الله لنصرة (إخواننا) فى الشيشان!.. بوصول فلاديمير بوتين للحكم تغير المشهد تماماً.تعامل الزعيم الروسى الجديد بحنكة لبناء جبهة داخلية قوية، كانت له السند الأكبر فى خوض الحرب الشيشانية الثانية، التى اشتعلت شرارتها الأولى فى أغسطس 1999 بغزو ميليشيات ما يسمى (اللواء الإسلامى الدولى) بقيادة الشيشانى شامل باساييف، والعربى خطاب لجمهورية داغستان المجاورة للشيشان. مثلت تلك العملية لبوتين، الذى كان آنذاك رئيساً للوزراء، تحدياً كبيراً، إذ أيقن أن الحركة الانفصالية الشيشانية بدأت تنفيذ ما كان يعلنه قادتها بشأن إقامة إمارة إسلامية تضم أقاليم وجمهوريات مجاورة. استطاع بوتين دحر مقاتلى باساييف وخطاب وحرر القرى الداغستانية، لكن الرد الشيشانى جاء مدوياً فى قلب موسكو!.. بعد قرابة شهر استهدفت سلسلة تفجيرات بنايات سكنية فأوقعت عشرات القتلى والمصابين كانوا نائمين فى شققهم!.. يومها أطلق بوتين تهديده الشهير للانفصاليين الشيشان وقادتهم: (سنطاردهم فى كل مكان حتى داخل دورات المياه!).. فى تلك الأثناء كانت القنوات التليفزيونية المملوكة لرجال أعمال عرفوا بمصطلح (طواغيت المال) ترددُ أن بوتين افتعل تلك التفجيرات بنفسه، بينما كانت العواصمالغربية تهدد بوقف المساعدات الاقتصادية للحكومة الروسية وتنتقد (الاستخدام المفرط للقوة من جانب الجيش الروسى ضد المدنيين الشيشان)!.. فى آخر أيام عام 1999 قدم يلتسين استقالته وأصبح بوتين رئيساً بالإنابة.. ساعدت تلك الخطوة زعيم الكرملين الجديد فى ترجمة خطته للحفاظ على وحدة التراب الروسى على أرض الواقع.. نجح إلى حد كبير فى توظيف رغبة الروس فى ظهور زعيم قوى يشبه القيصر، بعد سنوات طويلة من حكم الضعيفين جورباتشوف ويلتسين!.. قاد بوتين معركة لم تكن عسكرية فقط، بل إعلامية ودبلوماسية واقتصادية واستخباراتية كان عنوانها الرئيسى: الحسم!.. عندما أدرك أن الأمر يتعلق ببقاء روسيا كدولة موحدة لم يترك مجالاً للحلول الوسط.. قضى على قادة الحركة الانفصالية فى داخل الجمهورية الشيشانية مثل خطاب وباساييف ومسخادوف، أما ياندرباييف فقد قُتِلَ فى قلب العاصمة القطرية الدوحة!.. وقف معظم الشعب الروسى ولا يزال مع بوتين فى حربه ضد الإرهاب حتى حقق الجيش الروسى النصر العسكرى وعادت الشيشان جزءاً لا يتجزأ من الفيدرالية الروسية.. تحولت العاصمة جروزنى إلى واحدة من أجمل المدن فى جنوبروسيا.. أُعيد بناؤها من جديد، وكذلك كان حال جميع المدن والقرى التى تضررت جراء حربين طاحنتين.. لم يتبقَ من الحركة الانفصالية سوى جيوب صغيرة تحتمى بالجبال، وتقوم بين حين وآخر بالبرهنة على وجودها عن طريق عمليات إرهابية متفرقة فى المدن الروسية.. لكن الجميع يدرك فى النهاية أن الدولة الروسية قد انتصرت، وأن النصر لم يكن ليحالفها لولا الحسم!