لو نظرت إلى خريطة روسيا، لما استطعت العثور بسهولة على جمهورية الشيشان، إذ تقل مساحتها عن 16 ألف كيلو متر مربع، بينما تبلغ مساحة روسيا 17 مليون كيلو متر مربع.. كما أن الموارد الطبيعية لهذه الجمهورية التى يقطنها 1٫5 مليون نسمة تتراجع أمام ما تملكه الأقاليم الروسية الأخرى، ليصبح ما يردده البعض عن النفط الشيشانى أمراً مبالغاً فيه، حيث يمثل أقل من 1% من حجم الإنتاج الروسى! تلك هى حقائق الجغرافيا، أما التاريخ فيسجل مراحل عديدة لعلاقة الشعب الشيشانى مع قياصرة الكرملين، بدءاً من بطرس الأكبر ووصولاً إلى فلاديمير بوتين.. ظُلم الشيشانيون فى الماضى، وعاشوا مآسى التهجير إلى آسيا الوسطى وسيبيريا على يد ستالين بذريعة تعاونهم مع جيوش هتلر فى الحرب العالمية الثانية، لكنهم ظُلموا أكثر فى الحاضر بسبب النزعة الانفصالية التى سيطرت على زعمائهم، أمثال دوداييف وباساييف ومسخادوف وغيرهم ممن رفضوا صيغة الحكم الذاتى ضمن الفيدرالية الروسية، وجعلوا الاستقلال عن موسكو هدفاً دونه الرقاب! قُدر لى فى بداية التسعينات أن أشهد انهيار الاتحاد السوفيتى، الذى فتح شهية قادة الشيشان للسير على خطى الجمهوريات السوفيتية التى أعلنت استقلالها عن موسكو.. لمست فى تلك الفترة العصيبة انشغال الروس فى تبعات ذلك الزلزال الجيوسياسى، لكن ذلك لم يمنع كثيرين فى الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية من الحديث عن منح الشيشان وضعاً خاصاً داخل الفيدرالية، بينما اعتبر آخرون أن الموافقة على استقلال الشيشان يزيح عبئاً كبيراً عن كاهل موسكو.. غير أن تلك الآراء لم تجد صدى لدى الكرملين الذى كان يخشى انفراط عقد الاتحاد الروسى كما حدث مع الاتحاد السوفيتى! فى عام 1994 اشتعلت الحرب الشيشانية الأولى ودامت قرابة عامين، وانتزع الشيشانيون بنهايتها استقلالاً فعلياً لم تعترف به موسكو.. ورغم ما جرى من قتل وتهجير للمواطنين ذوى الأصول الروسية فى مناطق شيشانية، فإن الأصوات المتعاطفة مع الشعب الشيشانى لم تخفت داخل روسيا، إلى أن ذهب ذلك التعاطف أدراج الرياح مع تصدير الانفصاليين الشيشان الإرهاب إلى الجمهوريات والأقاليم الروسية، وفتح الأراضى الشيشانية أمام (المجاهدين) الذين قدموا من أفغانستان وبلدان عربية! تعددت العمليات الإرهابية وشملت خطف طائرات مدنية وتفجير قطارات وأوتوبيسات ومحطات مترو، ناهيك عن اختطاف رهائن فى مدارس ومستشفيات ومسارح إلى جانب عمليات انتحارية وتفجير بنايات سكنية.. تسبب ذلك كله فى حالة من الكراهية لدى قطاع عريض من الروس تجاه المسلمين عموما والشيشانيين بوجه عام، حتى أن الهلع كان يسيطر على ركاب المترو فى أى مدينة روسية عند دخول سيدة أو فتاة ترتدى الحجاب، مما جعل كثيراً من المسلمات هدفاً لهجمات أعضاء المنظمات العنصرية! فى أغسطس 1999 قرر الانفصاليون استغلال ضعف نظام الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين فقاموا بغزو جمهورية داغستان المجاورة بهدف ضمها إلى الشيشان لإقامة إمارة إسلامية!.. كان ذلك سبباً فى إشعال شرارة الحرب الشيشانية الثانية التى أُجبرت موسكو على خوضها، ليس لحماية وحدة ترابها وحسب، بل للحفاظ على ماء وجه الكرملين الذى اصطدم بغضب شعبى غير مسبوق! تعين على يلتسين الرحيل وتسليم القيادة لضابط الاستخبارات المتقاعد فلاديمير بوتين، الذى أطلق تعهده الشهير بمطاردة الإرهابيين حتى داخل دورات المياه!.. وجد القيصر الجديد نفسه فى امتحان صعب، لكنه خاضه بكل قوة إلى أن تحقق له النصر، معتمداً بالأساس على دعم المواطنين الروس، بل إن أحمد قاديروف مفتى الشيشان الذى حارب ضد موسكو فى الحرب الأولى، تحول إلى صفوفها ضد الانفصاليين، ولا زلت أذكر لقائى معه فى موسكو عقب تعيينه حاكماً إدارياً للجمهورية الشيشانية، حيث أكد لى أن الغرب يهدف لجعل الشيشان حصان طروادة لتفتيت روسيا إلى دويلات صغيرة! ارتكب الانفصاليون خطأ رفض كل ما قدم لهم للبقاء ضمن الفيدرالية الروسية بصيغة متميزة من الحكم الذاتى، وارتكبوا خطيئة التستر بالدين والاعتماد على العواصمالغربية فى تنفيذ مخططهم.. فى النهاية قُتل معظمهم، وهرب البعض إلى تركيا وجورجيا، فيما لجأ فلولهم إلى الغابات والجبال، ينسلون منها بين حين وآخر لينفذوا عمليات إرهابية تحصد أرواحاً بريئة، تتبعها بيانات على الإنترنت تتغنى بالجهاد وتبشر بقرب إقامة إمارة إسلامية فى جنوبروسيا وتعكس مدى ما يعيشونه من يأس ووهم! مرت السنوات وعادت الحياة إلى طبيعتها فى الشيشان، وحافظت روسيا على وحدة أراضيها، واستعادت الكثير من عافيتها السياسية على الساحة الدولية، فيما يزداد غضب شعبها بمسيحييه ومسلميه ويهوده إزاء كل قطرة دم تراق على يد الإرهابيين، وتترسخ لديه قناعة مفادها أن إرهاب الجماعات لا يُسقط دولاً.. أتأمل ذلك كله فأقول لنفسى: حكمة الله أن أشهد معظم السيناريو الشيشانى مرة ثانية.. هنا فى مصر!