كم هو عدد الأشخاص من حولك الذين ترى أن تضخما طرأ على ثروتهم بما لا يتناسب مع مصدر دخلهم؟ وأى عدد من السنين ظل الناس يتحدثون عن ثروات المسئولين التى انتفخت وفاحت رائحتها التى اشتمتها كل الأنوف عدا أنوف الأجهزة المختصة بمكافحة الفساد؟ وإذا كان لدينا جهاز مختص بمكافحة الكسب غير المشروع فما هو السبب الذى جعله طيلة السنين الماضية عاجزا عن رؤية المال العام المنهوب والثروات الخيالية التى جمعها المسئولون من المال الحرام؟ وما هو السر فى أن الجهاز كان يراها لكنه يقف حيالها موقف المشاهد الذى لا يملك من أمره شيئا، وذلك على الرغم من أن القائمين على هذا الجهاز كلهم من القضاة، منهم المتفرغ للعمل بالجهاز، ومنهم المنتدب بعض الوقت لفحص إقرارات الذمة المالية الخاصة بالفئات الخاضعة لقانون الكسب غير المشروع؟ والحقيقة أن إرجاع السبب بالكامل إلى رجال القضاء المسند إليهم العمل بإدارة الكسب غير المشروع أمر ينطوى على ظلم كبير، ذلك أن القضية أبعد من ذلك بكثير. فلقد صيغت نصوص القانون بحيث يبدو لقارئها أن ذلك الجهاز يتتبع ما يطرأ من زيادة بالذمة المالية لموظفى الحكومة والقطاع العام وغيرهم من الفئات الأخرى التى يتعلق عملها بالمال العام، بالإضافة إلى أعضاء مجلسى الشعب والشورى والوزراء ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، بل والعاملين بالقطاع الخاص إذا بلغت تعاملاتهم مع الدولة حدا معينا. وقد ألزم القانون تلك الفئات بتقديم إقرار بالذمة المالية عند بداية الالتحاق بالوظيفة، ثم إقرار دورى كل خمس سنوات يتضمن ما طرأ عليها من زيادة أو نقصان، ثم إقرار عند نهاية الخدمة. وإمعانا فى الجدية فقد عهد القانون بفحص هذه الإقرارات إلى قضاة بالمحاكم الابتدائية والاستئناف والنقض بحسب الدرجة الوظيفية لمقدم الإقرار، ومنحهم الحق فى اتخاذ كافة إجراءات التحقيق ومنع المتهم من التصرف فى أمواله وإحالته إلى محكمة الجنايات. أما الأمور الإدارية فقد أسندها القانون إلى أحد مساعدى وزير العدل الذى تنحصر مهمته فى تسيير العمل الإدارى فحسب. وكما كان الحال فى كل شىء، فقد كانت النصوص فى وادٍ والواقع فى وادٍ آخر، حيث جرى تقسيم القضاة بتلك الإدارة إلى قسمين؛ الأول ويتكون من عدد ضئيل يختارهم وزير العدل ويتفرغون للعمل داخل الإدارة مع مساعد الوزير لشئون الكسب غير المشروع، وتسند إليهم التحقيقات فى الشكاوى والبلاغات، والقسم الثانى وهو العدد الأكبر ويتولى فحص إقرارات الذمة المالية بالإضافة إلى عمله بالمحاكم. وهكذا تم إفراغ الفكرة من مضمونها، إذ بأى منطق يتصور أن يفحص عدد محدود من القضاة إقرارات الذمة المالية للملايين من موظفى الحكومة والقطاع العام وسائر الفئات الخاضعة للقانون؟ وأى نتيجة يمكن أن ننتظرها من قاضٍ عند تكليفه بعمل إضافى وهو مثقل من الأصل بملفات القضايا التى ضرب اللون الأصفر أوراقها بفعل الزمن؟ فإن أضفنا هيمنة وزير العدل -وهو فى النهاية عضو بالسلطة التنفيذية- على القضاة المتفرغين للعمل بالإدارة من خلال مساعد الوزير للكسب غير المشروع، ومن خلال تحكم الوزير فى اختيار هؤلاء القضاة، وتحديد مكافآتهم ومزاياهم العينية وإنهاء ندبهم فى أى وقت، نستطيع أن ندرك لماذا لم تكن رائحة فساد المسئولين تصل إلى أبواب إدارة الكسب غير المشروع. لذا، فقد آن الأوان لفتح ملف الإصلاح القضائى، وهو ملف شائك، لكن مواجهته صارت أمرا حتميا، آخذين فى الاعتبار أن قضية العدالة إذا لم توضع على قائمة الأولويات، فإن أسباب الثورة ستظل قائمة، ذلك أن ثورة بلا إصلاح قضائى تعنى أن القطار الذى انطلق معرض فى أى لحظة أن يفقد القضبان.