تخيل أن موظفا حكوميا راتبه الشهرى 5 آلاف جنيه استطاع أن يجمع ثروة قدرها 38 مليون جنيه، بالإضافة إلى فيلا فى محافظة 6 أكتوبر، وشاليه فى الإسكندرية، وشقتين فى مصر الجديدة ومرسى مطروح، مع أنه بالطبع لا يمكن لموظف مثله أن يجمع كل هذه الأموال الطائلة بشكل شرعى، هذا الموظف هو أشرف كمال، مساعد نائب هيئة تنمية المجتمعات العمرانية بوزارة الإسكان، وهو واحد ضمن 4 موظفين آخرين بكل من وزارة الصحة والثقافة والإسكان والزراعة، تنظر حاليا محاكم الجنايات قضاياهم، بعد أن وُجهت لهم تهم «الكسب غير المشروع والتربح من وظائفهم»، باقى المتهمين هم كمال عبد العزيز، مستشار وزير الصحة للشئون الهندسية، وقد ضُبطت بمنزله مشغولات ذهبية بمبلغ 70 ألف جنيه، فضلا عن امتلاكه العديد من العقارات والحسابات البنكية بما يقرب من 3 ملايين جنيه، وأحمد عبد الفتاح، مستشار وزير الزراعة السابق، الذى كوّن ثروة تقدر ب 5 ملايين جنيه، وأيمن عبدالمنعم، مدير مكتب وزير الثقافة لقطاع الآثار، وحساباته فى البنوك بلغت الملايين، بجانب امتلاكه العديد من الشقق والعقارات وشاليهات بالساحل الشمالى وقطع أراض زراعية ومبان بالدقهلية ولانش بحرى، وعدداً كبيراً من سيارات النقل، وكان يسيطر - بحكم منصبه على أكثر من 2 مليار جنيه هى ميزانية مشروعات الوزارة، وكانت له صلاحيات إرساء عمليات التطوير والترميم للمواقع الأثرية التى تقوم الوزارة بطرحها على المقاولين. تضخم حجم ثروة هؤلاء بهذا الشكل، وانتقالهم من شريحة محدودى الدخل إلى فئة المليونيرات يشير إلى أنها لم تتكون فى يوم أو شهر أو حتى سنة، بل على مدار سنوات عملهم، أى أن هؤلاء موظفون فاسدون منذ التحاقهم بتلك الوظائف التى تتدرجوا فيها حتى وصلوا لمناصب أعلى تمكنوا من خلالها من زيادة ثروتهم إلى درجة أسطورية، الغريب فى الأمر أن هؤلاء - وغيرهم كثيرون - تخضع جميع ثرواتهم لرقابة الأجهزة الرقابية، وملتزمون جميعا بتقديم إقرارات ذمة مالية إلى «جهاز الكسب غير المشروع» الذى يتولى فحصها لكشف أى فساد مالى يطرأ على ذممهم الخاضعة للمراقبة.. لكن أن يستمر هؤلاء فى عملهم لسنوات يكوّنون خلالها الملايين فهذا لا يعنى سوى أمر واحد.. «هناك تقصير لدى هذا الجهاز الحساس الذى يحمى أموال الدولة» والكلام للنائب البرلمانى المستقل كمال أحمد، الذى يصف الإجراءات التى يتخذها الجهاز لفحص الذمم المالية لموظفى الدولة بأنها «شكلية»، وهذا لا يكفى لكشف الفاسدين، ويضيف: «لو أن هذا الجهاز يقوم بعمله ما كان باستطاعة هؤلاء تكوين كل تلك الثروات غير الشرعية، وما استطاعوا الاستمرار فى فسادهم لسنوات طويلة كما هو الحال حالياً». جهاز الكسب غير المشروع الذى يهاجمه النائب المستقل، أنشئ بموجب القانون 62 لسنة 1975، الذى صدر بهدف تعقب موظفى الدولة الذين يستغلون وظائفهم للتربح بشكل غير قانونى. الخاضعون لرقابة الجهاز هم - وفقا للقانون- جميع موظفى الدولة، والقضاة ونواب مجلس الشعب، والعاملون بالشركات المملوكة للدولة أو التى تشارك فى رأسمالها، وأعضاء مجالس إدارة النقابات المهنية والعمالية، والعاملون بالجمعيات التعاونية والجمعيات ذات النفع العام، والممولون المتعاملون مع الحكومة. وهؤلاء ملزمون بتقديم إقرارات ذمة مالية تتضمن ممتلكاتهم وديونهم. أول إقرار يقدمه الخاضع للقانون عند بداية توليه منصبه، ثم يقدم تقريرا آخر بشكل دورى كل 5 سنوات، ويبلغ عدد الخاضعين للجهاز ما يقرب من 7 ملايين مواطن. تقديم الإقرار لا يعد أمرا صعبا، فكل ما على الموظف سواء - الفاسد أو غيره- أن يذهب كل 5 سنوات إلى مكتب البريد ويشترى بخمسة جنيهات نموذج الإقرار، يملأه بكتابة كل ثروته وممتلكاته وديونه هو وزوجته وأبنائه القصر، ويسلمها لشئون العاملين فى جهة عمله، التى تتولى بدورها تسليمها لجهاز الكسب غير المشروع، الذى تزايدت أهميته بعد أن نقل إليه جميع الاختصاصات القانونية التى كانت مخولة لجهاز المدعى العام الاشتراكى الذى تم إلغاؤه، ليصبح بذلك «الكسب غير المشروع» الجهة الرئيسية لمكافحة الفساد والمراقب الوحيد لموظفى الدولة ووزرائها. الدلائل على تقصير الجهاز كثيرة من بينها جهل الجهاز بوجود 35 موظفا فى الحكومة من أصحاب الملايين لا تتجاوز رواتبهم بضع مئات الجنيهات ووظائفهم تنوعت بين موظفين فى وزارة التربية والتعليم، وشركات الكهرباء والغاز ومرفق المياه وهيئة السكة الحديد، وهؤلاء لم يكتشف الجهاز ثرواتهم إلا بعد أن تقدموا ببلاغ للنيابة العامة - منذ ما يقرب من عام - ضد صاحب شركة توظيف أموال أودع هؤلاء لدى شركته 40 مليون جنيه. الذمم المالية المقدسة لبعض المسئولين، والتى يخشى مسئولو الجهاز الاقتراب منها، موضوع أثير كثيرا خاصة فيما يتعلق بالذمم المالية للوزراء ونواب مجلسى الشعب والشورى، يكفى أن نذكر أن هناك 108 نواب برلمانيين - من الوزن الثقيل - لم يطالبهم الكسب غير المشروع بإقراراتهم لمدة 10 سنوات، إلا بعد أن خرجوا من البرلمان وأصبحوا بلا نفوذ، كما أن هؤلاء لم يقدموا إقرارات الذمة المالية سواء عند بدء عضويتهم بالمجلس أو انتهائها. اتهام الجهاز بالانحياز لعدم قيامه بفحص أوضاع الوزراء وكبار المسئولين، تكرر كثيرا فى الآونة الأخيرة خاصة من نواب مجلس الشعب الذين تقدموا باستجوابات وطلبات إحاطة لوزير العدل ممدوح مرعى، من بين هؤلاء النائب علاء الدين عبد المنعم، الذى يستدل على اتهاماته للجهاز بأنه «لم يعلن عن المخالفات التى كشف عنها فحص الذمم المالية لأى من الحيتان الكبار الذين أثروا على حساب الشعب»، مشيرا إلى أنه لا يهتم سوى بالتركيز على صغار الموظفين. لكن المستشار عزت أبوالخير، رئيس الجهاز، والمقرب من وزير العدل الذى يصفه ب«رجل المهام الصعبة»، يرفض هذه الاتهامات، ويرى أنه أدخل تعديلات مهمة على الجهاز سهلت من عمله وجعلته أكثر قدرة على ممارسة دوره الرقابى، بعد تقسيمه الجهاز لإدارتين، الأولى تختص بالأموال والثانية بالقضايا المقامة من الجهاز أو ضده. ويؤكد أبو الخير أن العاملين بالجهاز والبالغ عددهم 106 موظفين، بالإضافة إلى 63 آخرين تم انتدابهم يقومون جميعا بعملهم على أكمل وجه. أبو الخير لم يمر على توليه المنصب سوى شهور قليلة، لذلك ربما يكون المستشار أحمد شوقى الشلقانى، الرئيس السابق للجهاز، أقدر منه على الرد على الانتقادات الحادة الموجهة للجهاز، خاصة أنه خلال فترة توليه شهدت الكثير من الهجوم على الجهاز تولى هو الدفاع عنه أمام نواب البرلمان ووسائل الإعلام. الشلقانى يدافع بشدة عن الجهاز ويقول إنه «لم يتهاون فى أى وقت فى تتبع الفاسدين، ويتابع الشكاوى التى ترد إليه ويفحصها بدقة»، وعن الاتهام بالانحياز أكد أنه «لا أحد فوق القانون» وأضاف: «الجهاز يتصدى إلى جميع البلاغات دون النظر إلى صاحبها أو منصبه وأى كلام يقال عكس ذلك غير حقيقى». الشلقانى يرى أن التقصير ليس سببه الجهاز وحده، وإنما هناك أيضا المسئولون بجهة العمل الذين يقصرون فى مطالبة الموظفين بتسليم الإقرارات، وتشهد وزارة التربية والتعليم حاليا أزمة حادة بعد أن وجه أبوالخير خطابا رسميا للوزارة يطالب 30 من مسئوليها بتقديم إقرارات الذمة المالية التى امتنعوا عن تقديمها، وجاء طلبه بعد أن بدأت تظهر على هؤلاء علامات الثراء المبالغ فيه غير المتناسب مع الرواتب التى يتقاضونها من وظائفهم. 4 طرق اعتاد عليها موظفو الدولة للهروب من قيد أموالهم غير الشرعية بإقرار الذمة المالية - رغم نجاح جهاز الكسب غير المشروع فى كشفها-، وهى إنشاء حسابات سرية فى البنوك الأجنبية خارج مصر، وهى الطريقة الأصعب فى الكشف عنها، أوإخفاء النقود فى المنزل وغالبا ما تكون على شكل مصوغات أو سبائك ذهبية، أو وضع الأموال فى حسابات باسم الزوجة أو الأبناء وهى أكثر الطرق شيوعا ويلجأ لها صغار الفاسدين وغالبا ما تكشفها الأجهزة الرقابية بسهولة، أما الطريقة الرابعة فهى اختيار الموظف الفاسد لشخص محل ثقة -الأخ أو الأم مثلا- ويكتب له أملاكه بعقود ملكية صورية. لمعلوماتك... ◄150 ألف قضية رشوة سنويا بسبب تقصير الأجهزة الرقابية