عند الإساءة يرغب القوى المسىء دائماً أن تفكر بطريقة الأجير، فعليك ألا تغضب وتبلع الإهانة وتدير خدك الأيسر بعد الصفعة على الأيمن، وقد يفكر الكثيرون فى الغرب بهذه الطريقة عند تناول الديانة الإسلامية، أن تصبح «كولى» أو «شيال» أو «أجير» مثلما كان يصف الأوروبيون المسلمين والهنود فى جنوب أفريقيا فى القرن الفائت، فالعنصرية تؤدى إلى التعميم الفاسد دون إعمال عقل أو تنبيه إدراك، وقبل سنوات ذهبت إلى الدنمارك فى زيارة عقب الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان دليلنا فى الرحلة مسيحى لبنانى عينته الحكومة الدنماركية لمرافقتنا، ومنذ اللحظة الأولى اصطدم بنا اللبنانى لأنه أراد أن يفرض نغمته ومن ثم نغمة الداعين للرحلة؛ أى أن نسمع وننصت ونقبل، ومن ثم خالفه البعض وتجاهل البعض الآخر الأمر حتى جاء إلى ذكر زوجات النبى، فهاج بعضنا وماج دفاعاً عن أمهات المؤمنين، وتوارى آخرون خجلاً، وفطنت عندها أننا هنا لنعود بقناعة واحدة هى قبول الإهانة تحت مسمى حرية الرأى والتعبير. وبلغت الدراما ذروتها بلقاء محرر جريدة «يولاند بوستن» المشرف على صفحة الرسوم المسيئة ليدافع مسترشداً بإهانة البعض للمسيح ورسمه على الأحذية، ولم يدفع إلينا المسيحى اللبنانى بأننا نلتقى صهيونياً عتيداً معروفاً بتطرفه، وعلمنا بالأمر من صحفى آخر ورجل شرطة أشهر إسلامه، وواجهناه بما لدينا من غضب، لينتهى به الأمر إلى خلع سترته الصوف من فرط الغضب والحنق علينا؛ لأنه ظن أننا سنقبل إهانة الرسول لأننا فى حضرة بلاد الحرية، وانتهى اللقاء وظل محفوراً بالذاكرة يستدعيه العقل كلما هبت رياح إساءة من الشاطئ الآخر للمتوسط، ومعه بالقطع لقاء رجل الشرطة الدنماركى الذى أشهر إسلامه، وجاء ليحدثنا عن اندماجه فى المجتمع الدنماركى كما كان مخططاً ليفاجئنا بأنه يتحدث عن العنصرية والتطرف ضد أى مظهر إسلامى، ويحكى لنا أن واحات الديمقراطية بها فيافى وأدغال، فالأمر ليس مثالياً ولكنه ليس سيئاً أيضاً، والقراءة الجيدة المتزنة من الضابط الغربى المسلم ذهبت بنا إلى شخص آخر ظننا أن لقاءه سيفتح آفاقاً جديدة لقراءة صانع القرار الغربى فيما يخص الرؤية للإسلام، وقد كان عضواً فى البرلمان الدنماركى من أصل فلسطينى يدعى ناصر خضر، ووجدناه يفكر وينطق بكلامهم ومن ثم صار عضواً فى البرلمان. ولم يصنع فارقاً سوى لقاء قيادات الوقف الإسلامى الإسكندنافى، الذين تولوا مع آخرين ملف الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم ملاحقات واتهامات الإرهاب وخلافه التى تستغل وجود متطرفين أمثال المنتمين لحزب التحرير لتتحدث عن الراديكاليين الذين يريدون ابتلاع أوروبا وتهديد حضارتها. وفى هذه الأراضى البعيدة ومع غطاء دبلوماسى لسفيرتنا هناك السفيرة منى عمر وسفراء الدول العربية والإسلامية، قامت شخصيات منها الشيخ أبولبن الفلسطينى وأحمد حربى وآخرون لا أتذكر أسماءهم بالدفاع عن الرسول، ولكن بالحسنى والسلمية، فلم يحرقوا أو يقتحموا أو يفجروا، فقط اصطفوا لرسولهم والدفاع عن دينهم فى وجه حكومة ومجتمع يتجه إلى اليمين، وائتلافه الحاكم يضم حزباً متطرفاً يرغب فى إلقاء المسلمين فى بحر الشمال، فشكلوا لجانا لنصرة النبى رغم المحاولات الفاشلة لاحتواء جهودهم والتأثير عليها بمبادرات رعناء من المنطقة جاءت من دعاة أرادوا الشهرة فقط. هذه ملامح من الدرس الدنماركى الذى عايشها كاتب السطور، ومرت السنوات والذاكرة العربية كما هى «ذاكرة ذبابة»، تنسى ولا تعى ولا تتعظ، تتعامل مع اللحظة ولا تقدر ردود فعلها وتجهل أن أول الطريق «معرفة». كلمة أخيرة: رغم اختلافنا مع الأستاذ هيكل فى قناعاته، فإننا نقف احتراماً أمام مهنته لأنه الأستاذ.. كل عام وأنت طيب يا أستاذ.