على مقهى (حلاوة) الشعبى أجلس سنة 2050م أعزب راغباً عن الحياة وقد تهدل شعرى الأبيض على منكبى وسقط حاجبى على عينى؛ أجلس وسط شباب يدخنون بكل بساطة النرجيلة المثيرة، وأحتسى أنا -بحكم السن- بأرستقراطية نصف مصطنعة كوباً من القهوة الساخنة فى جوٍ لا تنقصه برودة؛ تقاذفتنى الأفكار وتذكرت كيف أنى أضعت جهلاً وطواعيةً شبابى وسنوات الزهور أيام كنتُ رائع الطلعة بسّام المُحيّا؛ أضعت هذا كله بلا حب لاهثاً وراء العلم والشهرة والنجاح، وها أنا ذا أمام قبرى ولم أذق حلاوة الحب ولا لوعات المحبين، لم أملأ قلبى بشىء قط؛ فقط ملأت رأسى بالعلم وبكلام كثير تافه سوف يأكله الدود مع هذه الجمجمة الكبيرة! ولأن قهوة سنة 2050م المغشوشة لم تعد تُجدى مع كهل مثلى تعوّد على قهوة 2010م المثيرة المليئة بالكافيين ولأننا فى زمن الغش، حتى فى القهوة، فقد غلبنى النعاس وأنا على هذه الحالة ليجيئنى الشيطان فى وسط هذا اليأس والندم على ما فات يعرض علىَّ - ويسألنى: - ماذا تطلب أيها الكهل البائس؟ أنا الشيطان ولك عندى طلبان!! - الشيطان!! وما المقابل.. إن الشيطان لا يُعطى لوجه الله! - لقد أخذتنى بك الشفقة أيها الكهل العجوز. - وهل يُشفق الشيطان؟!.. إن الشيطان مخلوق شيطانى لا يُشفق! - لقد قلتها أنت.. «الشيطان مخلوق» وكل مخلوق تأخذه الشفقة؛ ثم إنك بثرثرتك هذه تُوشك أن تُضيع فترة حلمك هذه.. إن القهوجى يوشك أن يوقظك لدفع الحساب.. هلمَّ وتمنَّ سريعاً يا رجل. - « الشباب».. لفظتها كما يلفظ الظمآن كلمة الماء إذا ما برح به الظمأ. - حسناً.. ثم مسح الشيطان بيده على جسدى فتساقطت أوراق الكهولة وأينعت فى جسدى وروحى أوراق ولوعات الصبا! - إن لك عندى طلباً واحداً وأخيراً، فانظر ماذا ترى. - «الحب».. قلتها بحرارة وثقة تؤكدان مدى ما عشته من سنوات الحرمان. - وكيف إذن تريد محبوبتك أيها الكهل العجوز.. عفواً.. أيها الشاب القوى! - تنفست بعمق وغُصت داخل روحى إلى أعمق نقطة حيث يتكون الحب وحيث تنشأ البسمة والدمعة، ثم قلت له: انتظر.. سوف أرتكب معك الآن فعل المصارحة.. أريدها صارخة الجمال.. تطال السماء بجمالها ولا تمس الأرض بحمقها.. مختلفة فى شخصها، طموحة، طيبة، حين أفرح تشاركنى، وحين أتعرض لانحناءات المسير وتوترات النفس أعود إليها ألتمس الهدى من امرأة أصيلة وصالحة. - ويحك.. من تظننى.. أنا الشيطان.. هل تطلب من الشيطان امرأة صالحة! - وماذا فى هذا من غريب أو مريب.. ألم تقل لى «تمنَّ» وأنك ستلبى أمانىَّّ؟و أنا أطلبها كما قلت لك. - أما تكفيك امرأة جميلة و(روحها حلوة) ولو كانت لعوباً فسوف يهديها الله!! - إن طلبتُ الجمال وحده فسوف تتغير ملامحها بعد سنوات قليلة ألف مرة وسيزول بريقها، وإن بحثتُ عن هوجاء سوف أعيش بعد ذلك سنوات عمرى بقوة الدفع، وسوف لن أمارس خلالها فعل الحياة. - يا رجل.. أقول لك أنت فى حُلم وتقول لى «سنوات عمرى» يالك من أحمق! - فلتكن كما أريد ولو للحظة واحدة.. إننى صاحب مبدأ! - أى مبدأ.. لن تجد ما تريد.. اطلبها عاهرة جميلة وعش لحظاتك يا رجل. - ما كانت رغبات الرجال فى النساء لتقاس بمقدار الجمال ولا الهوج، بل بمقدار ما يجد من مشقة فى الحصول عليها؛ أما ترى أنه إن حصل عليها بلا مشقة يزهد فيها وينصرف عنها؟ - ألا يثيرك الجمال إذاً أيها الرجل؟ لقد أتعبتنى وأنهكت قواى!! - لا يكاد يثيرنى وحده إلا بمقدار ما يثيرنى تمثال فى جانب الدار ولو كان لآلهة الجمال؛ فيكون همى بعد ذلك أن أجد امرأة «أخرى» ولا يعنينى من تكون بقدر ما تعنينى أن تكون «أخرى». - أيها الشيطان.. أين أنت!!.. هل تسمعنى؟؟! هل غلبك النعاس؟؟! وإذا بيد القهوجى تربِّتُ على كتفى وتهزنى هزاً هيناً وتوقظنى لأدفع الحساب فقد طالت جلستى ووحُد مشروبى. أدفع الحساب.. أتكئ على عصاى وأرحل.. لعنة الله على الفلسفة.. لقد كان الشيطان معى بشحمه ولحمه ونسائه ومُتعه ولم أظفر بغير كلامى وثرثرتى؛ ولكن كلمة حق.. لقد كان شيطاناً نبيلاً!