أعرف أن كلمة الحق تُفقد صاحبها أصحابه، ولا بأس فى هذا عندى ما بقى الحق لصاحب الكلمة صاحباً! أقول هذا وأنا مقدم على مصارحة شباب الثورة وشيوخها بحقيقة لا يريد شباب الثورة بها اعترافاً، ولا يجرؤ شيوخ الثورة على أن يصارحوا بها شبابها؛ فالكل خائف من المواجهة، والكل يخشى أن تقتل الحقيقة الحلم إن هى جرحته بقسوتها؛ غير أن الأحلام العظيمة لا تقتلها قسوة الحقيقة بقدر ما تقتلها نعومة الوهم، والخطر على الثورة إنما يكمن فى الاعتقاد بأنها حققت انتصاراً «حاسماً» يسمح لها بأن تفرض على الأرض إرادتها «منفردة» وكأنها صارت صاحبة القلم الوحيد الذى يكتب التاريخ! وهمُ الاعتقاد هذا بدأ بما عاشه شباب الثورة وشيوخها ليلة الحادى عشر من فبراير 2011 من حالة ذهنية تقارب الحالة التى كان عليها المصريون صبيحة حرب أكتوبر 1973 بعد أن حقق الجيش المصرى انتصارات كانت قبل هذا التاريخ بأيام أقرب إلى المستحيل منها إلى الواقع؛ إذ كسر المصريون حاجز الخوف، وعبروا القناة فى ملحمة تدرسها مدارس الحرب حول العالم، وأسقطوا خط بارليف الأسطورى، وحققوا انتصارات هنا وهناك فى معارك الأرض والبحر والجو، حتى هُيِّئ للمصريين أنه قد تحقق لهم «النصر الحاسم» فى حرب لم تنتهِ فى الحقيقة بنصر حاسم لأى من الطرفين؛ ولأن المصريين أغرقوا أنفسهم -وما زالوا- فى أوهام «النصر الحاسم» هذه، فقد غابت عنهم أهم نتائج الحرب وهى أنهم غيّروا موازين القوة، ونجحوا فى خلق واقع جديد على الأرض، وحركوا مياه التاريخ التى أسنت، وصار فى أيديهم من الأوراق ما يسمح لبلادهم وقضيتهم بالتقدم خطوة كبيرة إلى الأمام. بدلاً من مصارحة المصريين بجزء الحلم الذى تحقق وقتها، غرق الإعلام وأغرق معه جموع المصريين فى وهم «النصر الحاسم» على قوات العدو، بل وتحولت قوات العدو بدورها فى الذهن الشعبى العام إلى مجرد «فلول» يطاردها جنودنا البواسل بعد أن فرضت قواتنا المسلحة سيادتها «كاملة» على أرض المعركة؛ فكان أن دفع الرئيس السادات ثمناً فادحاً لهذه الضلالات الإعلامية حين قرر الدخول فى مفاوضات السلام مع العدو، إذ وجد رأياً عاماً يتعامل مع انتصارات أكتوبر الرائعة وكأنها «نصر حاسم» لا يتسق مع فكرة التفاوض مع المهزوم الذى تترنح فلوله تحت تأثير صدمة «الهزيمة الساحقة»، بل وسرت كسريان النار فى الهشيم فكرة تخوين السادات لأنه أضاع «دماء الشهداء» ولم يتقدم بالجيش لاحتلال كامل الأراضى المحتلة. شىء من هذه الحالة الذهنية عاشته مصر بعد نجاح الثورة الشعبية فى كسر حاجز الخوف، وتحطيم أسطورة الأمن الذى لا يقهر، وإسقاط رئيس قال عن نفسه إنه تخلى وقال عنه أنصار الثورة -وأعتقدنى منهم- إنه قد تم خلعه؛ وهكذا ساد الشعور بانتصار ميادين التحرير فى مصر، وهو شعور مشروع بعد تحقيق انتصار سياسى رائع أشادت به شعوب العالم كله، تماماً كما حقق المصريون من قبل انتصارات رائعة فى حرب أكتوبر حظيت باحترام كل مدارس الحرب حول العالم؛ ولست فى هذه المقارنة بين الحالة الذهنية التى سادت مصر فى أعقاب الثورة وتلك التى سادت فى أعقاب انتصارات أكتوبر بمبدعٍ لصورة من العدم، فكل المصريين الذين شاركوا فى الثورة، وأولئك الذين دعموها أو تعاطفوا معها، رأوا فى عبور جسر «قصر النيل» إلى «ميدان التحرير» صورة عبور المصريين للقناة خلال حرب أكتوبر! بيد أن وجه الشبه بين الانتصارين إنما يكمن فى شىء آخر غير «العبور» تغافل عنه الجميع، وهو أن أياً من العبورين لم يصل إلى انتصار «حاسم» أو «نهائى» يسمح لصاحبه بفرض إرادته «منفرداً»، وإنما كان انتصار الثورة كانتصار أكتوبر محدوداً وإن كان مزلزلاً؛ ولأن الحالة الذهنية التى سيطرت على أكثر المتحمسين للثورة جعلتهم يرون الجزء الذى تحقق من الحلم وكأنه الحلم كله، فإنهم لم يروا على الأرض مساحة الواقع الجديد الذى يمكن للثورة تشكيله، فتجاوزوها إلى ما لم تكن قد امتلكت الثورة بعد أدوات القدرة على تشكيله من مساحات الواقع، فأضاعوا الممكن فى طلب المستحيل، وأهدروا ما تحقق من الحلم طمعاً فى وعود الوهم، وهو حديث يطول وإن كرهناه وأحببنا الوهم الذى يلهينا عنه.