قبل أن نستوعب المحرقة التى أصابت مكتبة الإسكندرية وأوشكت أن تسلمها لحالة من الصمت والنسيان، ونتأسى على المشروع الثقافى الكبير الذى كان هدفه ربط مصر بالدنيا وجعلها جزءاً من العالم علاوة على أنها قدمت نقلة حضارية كبيرة فى فنون الإدارة يمكن أن تتعلم منها مؤسسات مصر. البشر هم البشر، بدأ الأمر بخلافات شخصية وطموحات لبعض الأفراد ومحاولات لوراثة مكان إسماعيل سراج الدين. وفى غبار المعارك والقضايا والاتهامات والردود نسى الجميع أن مكتبة الإسكندرية صرح ثقافى مصرى قومى لا بد أن نحافظ عليه وأن نمكنه من الاستمرار فى أداء رسالته. وإن كانت قد حدثت تجاوزات، فمن الممكن مواجهتها وتلافيها. الجمعة الماضى جاءت المحرقة الثانية، عندما هجمت البلدية على مكتبات شارع النبى دانيال وأزالتها فى غمضة عين. سألنا عن السبب، قيل لنا إن المحافظ الجديد كان أول قرار له إزالة مكتبات الشارع، ليته فكر فى تنظيف الإسكندرية من تلال القمامة المنتشرة فى كل مكان، وقيل لنا إن الرجل إخوانى الهوى، ولذلك يطارد الثقافة، فهل جاء التصرف كرد على استقبال الدكتور محمد مرسى لوفد من الأدباء والكتاب والفنانين؟ ومحاولته طمأنة أهل الفكر؟. وما لا يعرفه السيد المحافظ أن شارع النبى دانيال الذى تقع به مقبرة يقال إن الإسكندر الأكبر مدفون فيها والشارع تحول لمكتبات نادرة، فيها ذاكرة الإسكندرية ومصر والوطن العربى والعالم من الكتب. عندما أذهب إلى الإسكندرية أستمر بالقطار حتى محطة مصر لأستمتع بالرحلة من أول شارع النبى دانيال حتى أصبح بالقرب من الكورنيش وأرى ما لا عين رأت وأسمع ما لا أذن سمعت عن كتب جميلة قديمة أصبح العثور عليها من رابع المستحيلات. فى معرض القاهرة الدولى للكتاب أبدأ زيارتى لسوق الكتب القديمة، التى تسمى سور الأزبكية، ومعظم الباعة فيها هم من أصحاب أكشاك شارع النبى دانيال بالإسكندرية. ويميزهم عن باعة القاهرة ثقافة حقيقية، ومعرفة بالكتب التى يبيعونها ونوعياتها وأهميتها، وهم كرماء يحضرون لك الشاى والقهوة ويعزمون عليك. ما لا يعرفه السيد المحافظ الجديد أن هذه الأكشاك مرخصة، وقد لعبت دوراً فى ترخيصها عندما كان اللواء عادل لبيب محافظاً للإسكندرية، وقد رحب بالتعاون معهم، واعتبرهم أحد ملامح حضارة الإسكندرية. هل يعرف السيد المحافظ أن سور الكتب القديمة فى باريس يطل على نهر السين، وسور الكتب القديمة فى لندن على شاطئ نهر التايمز، وسور الكتب القديمة فى موسكو ترى منه نهر الفولجا؟ أى إن أجمل الأماكن فى المدينة تباع فيها الكتب القديمة، وسؤالى الآن: مَن المستفيد من تدمير جزء عزيز وغالٍ من ذاكرتنا المصرية التى لا بد أن نحافظ عليها فى مواجهة الهول القادم الذى يوشك أن يعصف بنا جميعاً؟ مَن الذى يوقف المحرقة؟