كان قدرهم قبل سنوات أن يجاوروا أقسام الشرطة، سكنهم كان سببا فى أن يحسدهم الناس أياما قبل أن يصير مدعاة للشفقة عليهم. شقة سكنية أو محل تجارى جوار قسم الشرطة كان سببا فى ارتفاع قيمة الشقة أو المحل؛ فصاحبه على الأقل «هينام مطمّن»، كان هذا هو حال الحاج محمد أمين، النجار، الذى اشترى محله فى الحلمية الجديدة قبل أعوام طويلة بجوار قسم شرطة «الدرب الأحمر»، قبل أن يُعزل الشارع عن العالم بأسوار وأسلاك وتحيطه عربات الشرطة من جميع الاتجاهات. يجلس يومياً، كما اعتاد منذ زمن، فى محل صغير مواجه لقسم شرطة الدرب الأحمر، على كرسى على الباب ينتظر الفرج ربما يرزقه الله ساعة إجابة فى يوم الجمعة. الحاج أمين، الذى شارك فى حرب أكتوبر 73 فى سلاح الطيران، شارك مع جنود ذهبت أسماؤهم من ذاكرة الحرب فيما بقى أسماء القادة فى تحطيم خط بارليف. يقول: «خط بارليف الحصين لم يمنعنا من اقتحامه، واللى بيعملوه قدام الأقسام ده كله مش هيمنع الإرهابيين، بس كده بيقرفونا إحنا»، يشير الحاج أمين إلى التراب الذى غطى أكوام الخشب فى محله الضيق بعد أن طال انتظار الزبائن. يضيف: «المنطقة هنا ما فيهاش إخوان بالدرجة اللى تخلى الشارع متحوط كده، ومفيش مسيرات حتى بتعدى من هنا، لزومها إيه بقى 5 أو 6 عربيات شرطة تحوط الشارع وتفتش الرايح والجاى وتخلى الناس تخاف تقرب من محل أو حتى قهوة فى الشارع؟!». دخان كثيف يخرج من الشيشة المعلقة فى فمه، يرسل بصره شاخصاً تجاه القسم تارة وإلى الشارع الخالى تارة أخرى، يلمح من بعيد رجلا ملتحيا وامرأة منتقبة تسير جواره يقتربان منه ثم يكملان سيرهما تجاه القسم. ينتظر لحظة الصفر، وتتوقف أنفاس الشيشة فى صدره لتخرج كحة مكتومة حين يتأكد أن الرجل الملتحى تخطى القسم فى هدوء ولم يكن بحوزته قنبلة أو مسدس صوت، هذا حال الحاج غريب بدوى الذى توقفت ماكينة عصر القصب داخل محله «جنة الفواكه» عن إنتاج العصير. «كان زمانى دلوقتى عامل ييجى 300 كوباية عصير، لكن أهو ده الحال، قاعد باشرب شيشة وأهش الدبان من المحل»، قالها الحاج غريب، وهو يشير إلى كوبين فارغين من عصير القصب هما حصيلة عمل 5 ساعات يوم الجمعة، الذى اعتاد فيه «عم غريب» إغلاق المحل طلباً للراحة. «كنا بنرتاح الجمعة من الشغل، لكن دلوقتى هنرتاح من إيه؟»، يتذكر صاحب «جنة الفواكه» لماذا اشترى محله فى هذا المكان: «كنت خايف من الحرامية وقلت هنا عمرهم ما هيقربوا، بس ربنا وعدنى بالإرهاب وقلة الرزق وأنا اللى كنت فاكر إن القسم هيحمينى.. أستغفرك يا رب وأتوب إليك». بينما ينعى «أمين» و«بدوى» حظهما الذى ألقاهما بجوار القسم فى هذه «الأيام السودة»، حسب تعبير أحدهما، كانت السيدة صباح على، التى تسكن خلف القسم، تؤكد أن التعزيزات الأمنية الفائقة وإغلاق الشوارع بهذا الشكل والتأكد من هوية المارة تصب فى مصلحة أهالى الحى وعليهم عدم التضرر من ذلك. «إحنا كلنا فرحانين بالتأمين ده، ولّا يعنى هفرح لما عربية مفخخة تيجى تقف جنب القسم وتاخد عيل من عيالنا معاها؟»، السيدة الخمسينية، التى انتهت من شراء احتياجات منزلها مبكرا قبيل انتصاف نهار الجمعة، أكدت أن يوم الجمعة مؤخرا أصبح له طقوس مختلفة: «الجمعة قبل زيادة الإرهاب حاجة وبعدها بقى حاجة تانية.. أنا بعد العصر مش بنزل من بيتى ولا بنزل الولاد». من شارع مغلق فى محيط قسم الدرب الأحمر لشوارع أكثر إغلاقا فى محيط قسم السيدة زينب، الذى يجاوره مسجد عقيلة بنى هاشم التى تركها محبوها وخف زائروها إثر انفجار مديرية أمن القاهرة، باعة جائلون توقف رزقهم، يقفون ليتابعوا، بزهو، بعض العمال الذين يحاولون رفع لافتة تأييد للجيش والشرطة على أحد الأعمدة، بينما بقى «فرش» بعضهم مغلقا لم يفتح بعدُ لقلة الزبائن بعد ظهر الجمعة. «مالناش نفس نفتح، ما إحنا هنقفلها تانى من غير بيع ولا شرا.. خلى العربية بقى مقفولة أحسن»، ينظر رمضان رجب، صاحب فرشة الملابس، الذى يتوسط الرصيف أمام مسجد السيدة زينب ومن الناحية الأخرى يجاوره قسم الشرطة. يقول: «إحنا نفدى القسم بعينينا والله، بس برضه قفلة شارع بورسعيد دى ما ترضيش ربنا». الشارع الذى لم تتوقف فيه الحركة يوماً بدا شديد الرهبة بعد إغلاقه منذ تفجير المديرية. يضيف: «الحال عمره ما وقف زى دلوقتى حتى فى عز أيام 25 يناير، ولما القسم اتحرق، إحنا كنا أول ناس وقفت تحميه وتحمى بيت ربنا». ببساطة ولاد البلد، يتدخل الأخ الأصغر ل«رمضان»، صاحب الفرشة المجاورة، قائلا: «بصى يا أستاذة، دلوقتى التأمينات كتير بس مفيش أمان»، يكمل: «أنا مش نازل عشان أبيع لأنى عارف إن الحركة واقفة، بس نازل أحمى بضاعتى عشان لو حصل حاجة». لا تزال ذكرى ثورة يناير تؤرق سكان قسم السيدة زينب، وما زالت لوحة الشهداء المعلقة فى وجه القسم تحذر قاطنيه من يوم الغضب.. تحصينات وتعزيزات أمنية أصبحت أكثر ما يلفت الانتباه فى شارع بورسعيد، أبراج المراقبة تعمل بشكل منتظم وعساكر خدمات القسم ازدادت دورياتهم. «ممنوع على الإطلاق وقوف موتوسيكل أو عربية قدام القسم وحتى الشنط وأكياس الزبالة تُزال أولاً بأول»، قالها «محمود»، المجند الذى استشهد اثنان من زملائه فى انفجار مديرية الأمن، بينما كان هو فوق برج المراقبة بقسم السيدة زينب يشاهد الدخان الكثيف ويتابع صوت الرصاص علّه يعرف هل قُتل زملاؤه أم لا. «محمود»، الذى تبقى له عام واحد فى خدمته العسكرية، يدعو كل يوم من أجل إنهائه على خير وأن يعود لأهله سليما معافى وليس جثة هامدة فى صندوق خشبى. «محمود»، الشاب الذى أكمل عامه العشرين، يؤكد أنه غير تابع للداخلية وأن مهمته الأساسية فى معسكر الدراسة القريب «المراقبة والحماية، والأمر بالتعامل المباشر ما يجيليش من ظابط داخلية لكن من وحدتى فى الجيش». يقول «محمود» إنه شارك فى ثورة 25 يناير وقت أن كان بالإسكندرية قبل تجنيده، ولم يكن يعلم أن المقبل أسوأ وأن مهمته قريبة، يضيف: «فى 28 يناير رحت الجيش خدت ابن خالى ومجندين زمايله من الوحدة بعد ما انقطعت بهم السبل ودلوقتى باستنى دورى، يا ترى مين هيجيلى». «محمود»، الذى يكره التفجيرات ويخشى أن يطاله أحدها، كان يوم تفجير المديرية فارقا لديه، يقول: «ظباط الداخلية كانوا بيحترمونا قوى فى اليوم ده وحسوا بقيمتنا وإن إحنا اللى بنقع لما بيحصل حاجة بس بعدها بيومين كل حاجة رجعت زى ما كانت». ما حدث فى قسم شرطة الدرب الأحمر والسيدة زينب يتكرر بنفس التفاصيل فى قسم دار السلام، المشهد كما هو، السلاسل الحديدية تحيط القسم، سيارات الشرطة تؤمن المدخل، ولكن علامتين فارقتين فى المشهد هناك؛ فمدرعة الجيش لم تغادر موقعها بجوار القسم منذ الثالث من يوليو الماضى حسب أهالى المنطقة، وأمين المباحث صاحب الزى المدنى كذلك لا يبرح المساحة الأمامية للشارع فى مدخل القسم حاملا سلاحه الآلى ليؤمن القسم، يتابع القادمين والذاهبين فى «موقف سيارات المطبعة». فى زحام موقف السيارات، ينفى سائقو الميكروباصات أى مضايقات تسببها لهم تأمينات قسم دار السلام أو أى خوف من تكرار رؤية السلاح الآلى فى مواجهتهم باستمرار، يقولون: «السلاح ده مش لينا، ده للإرهابيين، والناس فى القسم بيتعاملوا باحترام مع الكل». محمد سيد، سائق ميكروباص على خط «المطبعة - جيزة»، يؤكد أن التشديدات الأمنية كان لها تأثير واضح فى إنهاء المشاجرات المستمرة داخل الموقف: «إحنا شعبنا كده، يخاف ولا يختشيش». مأمور قسم دار السلام أكد أن الاستعدادات الأمنية بالقسم كمثيلتها فى كل أقسام الشرطة الأخرى، وأن الحالة الأمنية هى ما تقتضى ذلك، ووجود القسم فى مرمى موقف الأوتوبيس يسهل استهدافه بشكل كبير، يضيف: «إحنا مش عايزين نخسر ولادنا، والتأمين فى مصلحتنا ومصلحة المواطنين».