يدرك أحمد بعد أكثر من نصف ساعة أنه ابتعد كثيرا عن السيارة وعن المكان الذي كان يلتفت فيه حوله ليجد نفسه قد قارب على الوصول لمشيخة الأزهر. يجلس على أقرب حجر يقابله، ويتصل بأميرة طالبا منها أن تلقاه في الحسين بعد نصف ساعة، تضطرب نبضاتها كما لم يحدث من قبل. - "طب ما تيجي البيت يا أحمد.. هو فيه إيه !!" - "مفيش.. مش هينفع.. هنروح مشوار" يغلق الخط ويأخذ تاكسي ليعود لمكان سيارته، وتأخذ أميرة قطعا متفرقة بلا تمييز من دولابها شاعرة بمرارة شديدة في حلقها وعطش غريب لا تعرف سببه. ترتدي ما تصل إليه يداها وتنزل لتوقف تاكسي وتركبه بلا كلمة واحدة، ودون أن تخبر السائق إلى أين تذهب. تستفيق على جرس تليفونها.. إنه هو.. علاء للمرة الأولى تشعر أنها لا تريد أن ترد عليه، يبدو أن هناك شئ ما عليها إنجازه مع أخيها أولا، لكنها لا تزال لا تدرك كُنه هذا الشىء!! تصل لأحمد، كل أطرافها باردة ترتعش في خفاء، تشعر بعرق بارد يتسلل إلى يديها وفروة رأسها فور وقوع عينيها على وجه أخيها؛ يحدثها حدسها أن هذه المرة مختلفة وأنها لو صدمت لن تقوى على المواجهة ككل مرة، ستنهار تماما! - "إيه اللي حصل؟؟، اقعدي" تجلس بجانبه وتلتصق به وكأنها تستمد منه أي حرارة كي لا تتجمد!، يحكي لها ما قاله والد علاء بالحرف ويبرز لها البطاقة التي تحمل اسم أحد أعلام الطب النفسي في مصر والتي أعطاها له الرجل ليتحرى ما جاءه به من معلومات. - "أنا مش عايزة أروح" - "تروحي فين؟" - "للدكتور" - "ليه؟؟" - "مش عارفة.. مش عايزة.. مش عايزة أسمع.. مش عايزة أعرف.. مش عايزة أروح" يشفق الأخ الأكبر، الذي طالما لعب دور الأب، على صغيرته. يأخذها بيده ليريح رأسها على كتفه ويربت على شعرها في حنان.. في محاولة يائسة لطمأنتها. - "أميرة.. مش أنا اللي هاقولك كل شيء قسمة ونصيب.. اجمدي؛ أنا هاروح لوحدي.. وهرجع أقولك ع اللي حصل" - "لا مش هأقدر.. أنا جاية معاك!" يهز رأسه موافقا ومستوعبا لنفسها غير المطمئنة. يتصلان بعيادة الطبيب ليأخذا ميعادا.. ويقضيان باقي النهار صامتين وكأنهما في انتظار نتيجة اختبار العمر، وفي موعدهما يستقبلهما الطبيب بابتسامة مريحة ويسأل عن أيهما صاحب المشكلة فيحكي له أحمد أنهما لم يأتيا طلبا للعلاج ويخبره القصة كاملة. يعيد الطبيب رواية ما قاله الأب مع زيادة بعض المصطلحات الطبية والتفاصيل إلا أن مجمل ما قاله لا يخرج عن سياق ما رواه الأب. - "علاء زي الفل ومع الوقت الحالة دي هتنتهي؛ ومع ذلك لو قررتي تكملي معاه.. هيكون ليه معاملة خاصة" - "خاصة إزاي يا دكتور؟؟ مش حضرتك بتقول إنه كويس؟؟" يقاطعها أحمد "إيه شكلها المعاملة الخاصة دي يا دكتور؟" "الحنيّة!" يفاجئها الطبيب بمصطلح أبعد ما يكون عن الطب والرسميات. "علاء محتاج حنية واستيعاب أكتر ما هو محتاج دوا وطب وجلسات.. هو معندوش حاجة مؤثرة ده راجل كان متعلق بأخوه التوأم لدرجة الالتصاق وعقله الباطن رافض يدرك إنه أقرب بني آدم ليه معادش له وجود وفجأة كده، الحالة دي نادرة، بالذات في الرجالة، لأن تركيبتهم أقدر على استيعاب الصدمات في العموم، لكنها إن دلت على حاجة فبتدل إن الراجل ده مرهف الحس للغاية.. حواسه كلها درجة انتباهها ونشاطها وحساسيتها أعلى من الطبيعي، م الآخر يا بختك يا ستي". يقولها الطبيب باسما ويبتسم أحمد، ويخيم وجوم تام على وجه أميرة التي تشكر الطبيب ببرود ثم تطلب منه تقريرا مكتوبا وموجزا بحالة علاء فيستأذنها في الاتصال بوالده أولا، لأنه من وقّع إقرارات العلاج منذ بدأت رحلته. يهاتف الطبيب والد علاء الذي يعطيه موافقة غير مشروطة بإخراج التقرير. وتأخذه أميرة في ريبة شديدة ويصافح أحمد الطبيب ويشكره ويغادران. تحتضن أميرة التقرير طوال طريقها للمنزل ولا زالت في حالة أقرب للإنكار منها للبحث عن إجابة وقرار. تدخل حجرتها وتبدل ملابسها وتسند ظهرها إلى وساداتها.. ولأكثر من ساعة تظل على نفس الحال.. محدقة في الظرف الأصفر الذي يحوي تقرير علاء الطبي بلا كلمة ولا تعبير ظاهر.. بل إن العاصفة التي كانت تدق رحاها في رأسها كانت قد هدأت تماما، وأصبح رأسها خاليا إلا من التحديق! وبعد سلسلة من المكالمات المستمرة التي لازالت لا تشعر بأي رغبة في الرد عليها تغلق هاتفها وتتكوم في سريرها وتحتضن وسادة الحنية، وتدفن فيها رأسها وكأنها ستنام، لكنها تنهار في بكاء مرير لم يزلزلها هكذا منذ سنوات حتى تذهب في غياهب نوم عميق. يروح أحمد ويجيىء في توتر باد، لا يعلم بماذا سيرد على مكالمات علاء المستمرة، هل يخبره بما صرّح به أباه وطبيبه؟ أم أن هذا يعد "صدمة" من التي حذّر منها الأطباء الوالد. يقرر في النهاية أن يغلق هاتفه إلى حين ميسرة. تفيق أميرة في فجر اليوم التالي، عيناها منتفختان وحمراوتان كبطل ملاكمة تفادى لتوه الضربة القاضية، تلملم القليل من ملابسها بلا ترتيب وبعض الأوراق والأقلام واللاب توب وتمسك بالكاميرا الرقمية خاصتها، ثم تعيدها إلى مكانها في استغراب وكأنها لا وقت لها. تضع ما جمعته في حقيبة صغيرة وترتدي ثيابها وتخرج من باب حجرتها متجهة للخارج. تترك ورقة ملاحظات صغيرة على مرآة بجانب باب الشقة "أنا في شاليه العجمي"، وتسحب مفاتيحها في هدوء وتغلق خلفها الباب في حرص على عدم إحداث أي ضجة.. وتمضي! في طريقها إلى شاليه العجمي، الذي شهد أزهى ذكريات طفولتها وأرق نوادر صباها صيفا وشتاءً، ملجأها ومهربها من كل شيء، حيث رائحة أمها الطيبة وبخورها المحبب لا تزال تنزوي رغم السنين في جنبات المكان، والديكور البسيط والمريح قليل القطع الذي اختارته يتحدى موضات الأثاث عاما بعد عام. هي المرة الأولى التي تشعر هكذا بطول الطريق، كانت دوما ً تشعر أنها تطير إلى هناك وحدث أكثر من مرة بالفعل أن التقطها الرادار لتجاوزها السرعة المقررة، إلا أنها اليوم تشعر أنها تمشي بلا روح، تتحرك بشكل أوتوماتيكي وكأنها جزء من السيارة لا أكثر، تصل إلى الشاليه وتضع أشياءها، وقبل أن تفرغ ما أتت به تبعث برسالة إلى أحمد تطمئنه على وصولها وتعتذر عن الذهاب المفاجىء.. ورسالة مختصرة لعلاء. "إحنا في إسكندرية.. ظروف.. لما أرجع هكلمك". وتنتشر في أرجاء المكان تنظفه وتفتح النوافذ وتغير مفروشات الحجرات وتعود لتعد لنفسها كوبين عملاقين من القهوة وتجلس لترشفهما وحيدة في التراس المطل على البحر. لمدة يومين كاملين لا تفعل سوى القهوة والتحديق في البحر ثم القهوة والرد على رسائل أحمد ثم المزيد من القهوة والمزيد من التحديق.. يتخلل ذلك بحثا مستمرا ومطوّلا ودؤوبا على الإنترنت عن كل ما كتب عن كل حرف جاء فى تقرير الطبيب، لكنه لا جديد، نفس النتيجة، فالمزيد من القهوة والمزيد من التحديق!! يغلبها النعاس في التراس وتصحو على نسمات صباحية باردة تتسلل إلى ذراعيها المكشوفتين فتنتبه وتدخل ملتمسة بعض الدفء والارتياح في سريرها القديم، وقبل أن تستسلم للغيبوبة التي انتظرتها لتخلصها من أرقها وبركان التفكير الناشط بعقلها، تصحو على طرقات هادئة يصحبها صوت بوّاب المنطقة يخبرها أن هناك ضيفا يسأل عنها. تقوم لا تقدر على القيام ولا حتى زار عقلها الفضول لتعرف من الزائر. اعتقدت لوهلة أنه أحمد وسقطت الفكرة من رأسها كأن لم تكن قبل حتى أن تدرك أن أحمد يملك مفتاحا ويعرفه البواب! تخرج إلى التراس ونسمات البرودة تضايقها على غير العادة. "علاء؟ ازيك!" مستقبلا إياها بابتسامة أبرزت أسنانه الناصعة وأضحكتها هي أيضا. "مش عايزة تتجوزيني قوليلي عادي...مش هموت متخافيش؛ بس ماتخضنيش عليكي كده" "انت عرفت هنا إزاي" "أنا والحاج اتصلنا بأحمد علشان نحدد معاه معاد علشان نطلبك رسمي.. فطلب مهلة.. بعدها اتصل بيا وقاللي". - "قالك إيه؟" - "إنك هنا" - "وإيه كمان؟" - "وقال إنك متلخبطة وخايفة ومتاخدة ووحشتيني" - تبتسم من جديد: "طب فيه الخير إني وحشته" - يضرب غُر ّتها بعيدا عن عينيها ممازحا إياها "بايخة" - "وحشتني" - "عادي يعني مانا عارف" - "ها يا عارف وقالك إيه كمان أحمد" - "قاللي إنك بتحبيني" - "هو قالك كده؟؟" - "الصراحة لا مش هوّ.. لمعة عينيكي النعسانين دول أول ما شفتيني" - "علاء.. أنا لسه بفكّر" - "وهو أنا قلت حاجة؟؟ أنا جاي اتطمن عليكي وماشي" - ويستدير وكأنه سيغادر.. يلف رأسه إليها: "أمشي؟؟" - تجذبه من كتف قميصه في دلال "لا يا أخويا ماتمشيش" ثم تسحب خفيها من أسفل المنضدة وتلبسهما وتنزل ممسكة بيده درجات السلم القليلة المؤدية لممر قصير إلى رمال الشاطىء.. ثم تخلع نعليها وتداعب الرمال الندية التي لم تلفحها بعد حرارة النهار في حركات طفولية بريئة لكنها تحمل أنوثه غائرة خفية. - "هات موبايلك" - وبلا أسئلة يخرج هاتفه ويناولها إياه "أنا هتجوز علاء يا أحمد"، تضغط رقم أخيها ثم "إرسال" ولا تكاد تفعل حتى يرفع علاء كفيها إلى وجهه ويلثمهما في نشوة وامتنان، وكأنما يشكرهما على تحرير قرار حياته. وبعد بضعة أشهر تستفيق أميرة في سرير أبيض على ذات الشفاة تلثم ذات الكفوف: "حمد لله ع السلامة يا أم علي!". تمت!.. الحلقات السابقة "الباحثات عن الحنية 1".. أميرة الباحثات عن الحنية (2).. عينا رجل الباحثات عن الحنية (3).. "لما جت عينك ف عيني" الباحثات عن الحنية (4).. جرالي إيه الباحثات عن الحنية (5).. نكد السنين الباحثات عن الحنية (6).. اليوم عاد الباحثات عن الحنية (7).. أحمد والمفاجآت م الآخر| الباحثات عن الحنية (8).. انفصام الشخصية