تسرح في عينيها لدقيقة، فتلاحظ البريق الذي يطل منهما معلنًا في تحدِ أنها - عيناها - لن تسمحا بتفويت فرصة لقائه مرة أخرى. تغسل وجهها وتزيل القناع الأخير.. تتوضأ وتصلي ركعتي استخارة وتطيل السجود دون أن تنطق بكلمة وكل ما فيها يسجد معها وإلى الله يبتهل أن يوجهها إلى الخير الذي لا تراه. تُنهي صلاتها بالدعاء لأبويها وأخيها كما اعتادت.. تشعر أنها تريد أن تدعو له، فتضيف "يا رب احفظ علاء ابن حوا وآدم". وفي توتر ترتدي آخر ما انتهت إلى اختياره وتطلب صديقتها الوحيدة لتخبرها بالقصة التي لم تذكر لها أيًا من تفاصيلها سلفًا، وهي تقود في اتجاه ناديها الرياضي الذي حددته كمكان للقاء الأول.. "يا رب ما يكونش الأخير"، قالتها صديقتها دينا وهما تستعدان لإغلاق الخط. غير أنها لم تكف عن الصراخ مستنكرة أن يحدثُ هذا كله ولا تعلم عنه إلا الآن. "اهمدى بقى؛ هبات معاكي النهاردة" وتغلق الخط وتأخذ نفس الثقة وتدخل متمنية أن يكون وصل قبلها. وتراه جالسًا في ارتياح منهيًا قهوته التي تبشرها بأنه ينتظرها منذ وقت ليس بالقليل، كان مهندمًا في قميص أزرق داكن يفوح بعطر رجولي آخاذ - كوكتيل التوابل والأخشاب التي طالما كانت أكثر المكونات سيطرة في أي عطر رجالي - يجذب انتباهها، تجلس مصافحة له وهي تحدث نفسها في صمت "آه.. شكله كده مهندس"، وتعطيه موجزًا عنها وعن عملها من جديد، وكأنها تبرر له ما فعلت، وقبل أن تصل إلى الحكاية التي ألّفتها، يفاجئها "بس أنا مش بادور على شغل، أنا جيت عشان أشوفك". ينعقد لسانها فيردف "أنا شفت ف عينيكي إنك عايزة تشوفيني مش تشغّليني"، ولا تستطيع أن تنكر، فيبدو عليه الارتياح وأنه كان متوترًا من ردة فعلها. عن كل شيء يتحدثا.. عن الموسيقى والفنون والهندسة والمقاولات ومصر، يحكي لها عن نفسه كثيرًا؛ فيخبرها أنه من أصول صعيدية ويعيش بالقاهرة وحيدًاَ منذ سنوات، وأنه قد تسرّب من كليته بعد نجاحه بتفوق في العام الأول لظروف خاصة، إلا أنه وبعد مرور أكثر من 5 أعوام قرر العودة واستئناف الدراسة والعمل، بعيدًا عن سطوة عائلته الثرية التي أرادت أن تتحكم في كل شيء في حياته، ولا تسأل "أميرة" عن أي تفاصيل، لم تكن فعلًا تهتم، وهي تراه وتنهل بعينيها من ملامحه نهلًا وروحها تغترف من عطره ليملأها، أن تعرف اسم عائلته ولا تفاصيل الخلاف، هي فقط تريد من اللغة العربية فعلًا واحدًا.. "تراه"!. وحينما حلّ المساء كان عليها - على غير رغبتها - أن تودعه وتعود لتقضى ليلتها عند "دينا" التي جلست القرفصاء محدقةً في "أميرة" كأب في انتظار مولوده الأول، لتسمع كل التفاصيل التي أعادتها "أميرة" وكررتها وجمّلتها وبسّطتها وعقدتها حتى صارت "دينا" تعرف "علاء" وتكمل جمل "أميرة" قبل أن تنطقها. وقبل منتصف الليل، يرن هاتفها برسالة منه "بكرة.. نفس المكان.. نفس الميعاد.. ممكن؟"، فتنظر إلى "دينا" في هيام وتقول "ممكن؟؟"، فترد "دينا" مومئة برأسها قافزة من على سريرها "ممكن!"، وتبعث إليه برد من كلمة واحدة "ممكن!". في اليوم التالي.. نفس المكان والموعد ونفس الانتظار ونفس القهوة الدافئة، لكنّ الشوقَ أكبر! تهم أن تجلس بلا مصافحة، فيأخذ يدها في حنو وكأنه يحرص على سلامة سطح مصقول، وتخبرها هذه اللمسة أنه "هو". هو لا يزال يحكي وهي لا تزال مأخوذةٌ به.. هو ابنٌ ثانٍ وسط 6 أخوة، أكبرهم ذكر لأسرة من أعيان أسيوط وأكثر عائلتها سطوة وعددًا.. عُرف منذ صغره برفضه لأن يكون استنساخًا من أبيه وجده وأخيه الأكبر، وأن ينضم إلى مؤسسة تجارة الأسلحة الضخمة التي تخفّت خلف ستار استيراد المعدات الزراعية وبيعها، غير أنه لم يكن هناك من يعلم بأنهم أكبر تجار الأسلحة في مصر قاطبة، اقشعر جسد "أميرة" فجأة وظهر اضطرابها عند انتهائه من سرد تلك الجملة، فابتسم لها "لسه". وأردف يحكي أنه قرر الابتعاد عن هذا العالم الذي لم يحبه ولم يتمنَ يومًا الانتماء إليه رغم إثارته ومغرياته الكُثر، وكان طريقه الأقل جموحًا في هذا هو اختياره لدراسة لا تمت لعالمهم بصلة.. "هندسة الطيران"، حيث اجتاز العام الأول بنجاح، وحينها قرر والده - الذي استشعر نفوره وتبريه من حياتهم وتجارتهم وسطوتهم - أن يزوّجه اخت زوجة أخيه التي أتمت السادسة عشرة لتوّها، وقت لم يكن هو حتى أكمل عامه العشرين، ويرفض "علاء" بالتصريح والتلميح، إلى أن يفاجئه الوالد وهو آتٍ ليبشرهم بنجاحه في سنته الأولى بأن موعد زفافه قد حدده الأسبوع المقبل، يعلو صوت "علاء" أمام والده لأول مرة بالرفض، ويضربه الأب أمام الجميع. يحكي لها أنه شعر أن هذه الصفعة نالت من روحه وكبريائه قبل أن تهوي على وجهه، وأنه حينها فقط قرر الابتعاد بشكل كامل ونهائي عن حياة الخطر والجاه المزيف والسطوة المرتعشة، هو لا يريد بعد الآن العيش وسط من يفرضون عليه كل شيء حتى من تشاركه طعامه وحلمه وفراشه لحياة قادمة. يترك البيت لا يلوي على شيء، فهو لم يعتد الابتعاد عن البيت والاستقرار والتدليل، لكن قراره كان أقوى من التراجع، يمكث في مسجد القرية الصغير لعدة أسابيع يعرف خلالها أن والده لن يلين ولن يتراجع ولن يقبل ما أسماه "دلع"، ويعرف أنه حينما قرر - هو - فعل ذلك كانت اللحظة الأصوب على الإطلاق. بعد أكثر من شهر.. يبعث إليه أبوه مندوبًا غير مباشر ل"جس النبض" وإقناعه بالعدول عن قراره، أحد أفراد جماعة متطرفة ممن يطلقون على نفسهم "مجاهدين" ممن كان أبوه يمدهم بالسلاح ويعقد معهم الكثير من الصفقات التي ساهمت في ازدياد نفوذ العائلة وثرائها الواسع، يتودد إليه "الشيخ ممدوح" الذي لم يكن شيخًا ولا يحزنون؛ هو فقط شاب يكبره ببضعة أعوام كث اللحية ويرتدي ملابس هذه الجماعات الكلاسيكية التي يتمسكون بها على أساس أنها سنّة. وبعد عدة أيام من الحديث والإقناع، يطلب منه "علاء" أن يعود إلى والده ويخبره بأنه لن يعيش إلا كما اختار أن يعيش، وأنه لن يرجع إليه ذليلًا مهما كلّفه الأمر. تشعر"أميرة" بانقباض في قلبها، ويشعر هو به كذلك، ويقرر أن يمنحها الفرصة لالتقاط أنفاسها.. على الكورنيش!