تتوقف عدة مرات في طريقها للخروج من غرفتها، لتسوّى وسادتها الصغيرة وتعدّل وضعها أكثر من مرة، وكأنها تضع ابنتها الصغيرة في وضع مريح، وليس مجرد وسادة بين أخريات.. تدير سيارتها، وهي تبتسم في شكل أوتوماتيكي باهت لكل من يجاورها الطريق، هي فقط، تريد أن تعتاد الابتسام حتى لا يسألها أحد عن أي شىء!. رحل والدها، وهي لا تزال في السابعة من عمرها، ولحقت والدتها به بعدها بسبعة أعوام، ثم تزوّج أخاها الأكبر والوحيد وهاجر للولايات المتحدة، وبقت "أميرة" بمفردها ببيت عائلتها الكبير، منذ ثلاث سنوات وحتى الآن.. افتقاد أميرة، للحنية جعلها تعادي كل من لا يحملها بلا وعي.. كانت تشعر في السنوات الأخيرة، بقشرة صلبة تنمو فوق جلدها اللين، لتكسو أي مظاهر للإحساس، كانت تشعر أن العالم قد فقده ولا أحد بعده يستحق أن تمنحه إياه. "الحنية"!.. ابتسمت من قلبها هذه المرة، وراحت تدير شريط السينما العملاق برأسها الصغير.. يااا ربي، لقد كانوا كثرُ، رجال كثيريين، صادفت وتركت، كرهت وإحترمت واحتقرت، تنازلت وترفّعت، انسحقت وانصهرت وتكبّرت.. لكنها لم تذُب.. لم تستشهد بكامل إرادتها على أعتاب رجولة أحدهم.. صادقت ذكورًا عدة، ولم تجد رجُلها.. دخلت وخرجت من ممالك عدّة، لكنه لم يكن هناك من يستحق أن تقلّده عرشها.. صادفت محاربين وخُدّام ووزراء وذوي عدل، لكن لا فارس ولا ملك!.. كانت تسعد لمجرد أن تفكر فيه. سنوات وإحساسها القوي، أنه ينتظرها في مكان ما لم يتغير، ولم يبرٌد، ولم تيأس.. كانت تعرف ملامحه، وتعرف أنها ستتعرف عليه بمجرد أن تقع عيناها عليه.. عينيه وجلده وأنفه القيصري، وابتسامته الآسرة.. كانت تقول لنفسها أنها أخطأت مراتٍ عدة، حينما بدأت بعلاقات كانت تعلم منتهاها، واختارت رجالًا كانت تثق بأنهم ليس بينهم رجل عمرها، لكن آن لكل ذلك أن ينتهي، وآن لها أن تبقى في انتظاره وحده. استفاقت من فيلم خيالها، على صوت الساعي "أجيبلك القهوة دلوقتي؟"، أدركت أنها منذ نصف الساعة، لم تفعل شيئا سوى"البحلقة " في سقف حجرة مكتبها، "أيوه لو سمحت يا عم صالح"، ردت وعاودت السرحان.. إنها أبدًا لم تشرب القهوة، ولم تحب طعمها، وكانت دومًا تستمتع فقط برائحتها، لكن بدافع لم تفهمه قررت أن تعتاد القهوة وطعمها، رغم أنها لا تحتاج إضافة أرق جديد ليومها الخالي سلفًا من النوم.. لقد أخذ منها التفكير في شكل قهوتها يومًا كاملًا، هي تحب كل مشروباتها الساخنة "زيادة"، لكنها لا ترتاح لفكرة أن تكون قهوتها كذلك، شكلها مش شبهه، هو مين؟. "مجنونة"، كانت إجابتها على نفسها، ارتشفت القهوة "المانو"، في سعادة من اكتشف الحقيقة أخيرًا!.. أنهت يومها العادي بالعمل، واعتذرت عن أكثر من دعوة وتجمع وحدث اجتماعي، غالبًا ما يدعوها أصدقائها بالعمل إليه؛ لأنها تضفي لمسه خاصة من المرح أينما توجد، كما أنهم يشعرون بوحدتها ويخافون عليها كثيرًا من الاندماج فيها، غير أنها تعتذر غالبًا؛ لانها لا تريد أعداد أخرى تنضم إلى ذاكرتها، وتاخذ من مساحتها التي خصصتها له. عادت لغرفتها المرتبة بعناية، والتي تفوح برائحة تشبه "غزل البنات"، و تنطق كل تفاصيلها أنها حجرة "أميرة"، وتحت أمواج الدش الدافىء تغمض عينيها، وتستمتع بالقطرات وهي تغمرها، وكأنها شفتا المنتظر تمطرها "حنية".. تخرج وتلتف في تيشرت قطني وبنطلون قصير ناعم، يساعدانها قليلًا على الارتياح وتقبُل فكرة الأرق غير المبرر.. تحتضن وسادتها الصغيرة، وآلاف الخيالات تدور برأسها.. هو لن يكون لنا كالوسادة، ولن تحتضنه هي كما تحتضن الوسادة بل سيفعل هو، وسيكون صلبًا كالرخام، ناعًما تمامًا مثله، ودافىء الصدر كسرير غادرته قطة شيرازي للتو!. "كم تتوق لاحتضانه".. تلك التفصيلة كانت أكثر ما يدور بخلدها عنه!.. وفي الصباح، ومن جديد ترتب غرفتها وتساوى وسادة "الحنية"، وتتركها إلى العمل.. يا الله!!.. السيارة، خلت تقريبًا من الوقود، إلى محطة البنزين..