تروح أميرة وتجيىء وتليفونها لا يزال مثبتًا إلى وجهها بإحدي يديها؛ تمشط بيتها وكأنها تبحث عن خريطة الكنز.. وهي على العكس تمامًا؛ لا ترى أصلًا شيئًا على الإطلاق.. هي سعيدة مغمورة بإحساس قوي بالفرحة والرضا والقلق العارم. تعطي علاء في النهاية ردًا كلاسيكيًا لا ينم عن أي مما في رأسها بأنها تحتاج وقتًا، لأنه فاجئها!.. مخاوف أميرة لا زالت أكبر من مشاعرها الخضراء، أكبر من مشاعر الحنيّة التي غمر بها علاء يومها وقلبها ووجودها كله، بعدما كانت تحرثُ في صحراء وحدتها لسنوات. لكنها لازالت وحيدة.. لا تزال بلا أبوين تستشيرهما، ولا أخ أكبر تحكي له ومعه، ليشعر بها ويوجهها.. كانت خائفة للغاية.. ليست فقط مما حكاه ويحكيه ويزيد به همها طوال الوقت، بل أيضًا من سيطرته على حياتها وعلى كل تفاصيل يومها، وتراجع شخصيتها القوية الثابتة أمام مشاعرها تجاهه.. فهي اعتادت أن تكون وحيدة على الرغم من حلمها الدائم بمن سيكسر هذه الوحدة، واعتادت ألا يكون لغير عقلها إمرةً عليها، أما هو؛ فقد اقتحم كل شىء بلا استئذان، واستعذبت هي الاقتحام واستسلمت وسلّمت منذ الجولة الأولى. وبعد أيام من المماطلة التي تفهمها جيدًا، صارحته بأنها تحبه ولا تفكر في إمكانية أن تتركه؛ إلا أنها تخاف أن تكون مشاعرها "عمياء"، كالكثير من المشاعر التي اجتاحتها قبلًا، وعلى هذا فهي تحتاج وبشدة صوت العقل والذي لن يمثله أحسن من أخيها أحمد.. ساكن الولاياتالمتحدة منذ سنوات، تبعث برسالة بريد إلكتروني لأخيها وتطلب منه أن يقابلها على skype، للحديث بأمر هام ويرد بأن غدًا عطلته الإسبوعية، ويستطيع أن يتحدث معها طوال النهار ويسألها إن كان الأمر يحتاج وجوده فسيكون بجانبها فورًا.. وتخبره بأنها قد تحتاج ذلك بعد فترة، لكن ليس الآن!. وفي اليوم التالي، تتحضر أميرة بقلم ونوتة صغيرة خطت فيها الكثير من الجمل القصيرة والطويلة غير المنتهية، وحروف إكس كثيرة كتبت بجانبها كلمات تريد أن تذكرها خلال حديثها.. بالفعل تجلس أمام اللاب توب المفتوح أمامها ويطل أحمد عبر السكايب ويبدأن حديثهما بافتتاحية عادية، بسؤال عن الأحوال ومصر وأمريكا وأبناؤه وعملها و كل شىء، و"زنة" من جديد لتأتي للعيش معه.. وتستمر المحادثة لثلاثين دقيقة قبل أن تفاتحه في خجل.. - فيه واحد متقدملي. - مانا عارف. -عارف؟ - ضاحكًا.. طبعًا هو أنا شوية - عارف إزاي - صوتك بيقول كل حاجة من أول إزيك يا حبيبي المسهوكية اللي في الأول - وإيه كمان يا فتك - بقالك تلات أسابيع هيمانة وما بتعبرينيش، ولولا إني باتصل بيكِ مكنتيش أخدتي بالك؛ ما بقيتش أوحشك زي الأول - ها! - لا خلاص كفاية عليكِ كده.. احكيلي بقى وتحكي أميرة لساعة أو أكثر لا تتوقف عن الحكي، وأحمد يستمع في صمت تام ويدوّن ملاحظاته وأسئلته هو الآخر في دفتر صغير كأمريكي "قراري".. وبعد أن تنتهي يبدأ أحمد في سرد أسئلته واحدًا تلو الآخر، وتجد نفسها تتحدث في استرسال مدافع مستميت، وكأن "علاء" هو من ينتمي إليها جينيًا وليس "أحمد"!.. وفي النهاية يباغتها "أحمد"، هو إنتي صحيح مستنية ردي؟. - قصدك إيه؟؟ - إنتي مقررة يا أمي.. مش مقررة.. دانتي دايبة ع الآخر.. يا بخته يا ستي تفضحها ابتسامة خجل حاولت أن تخفيها، إلا أن الأقمار الصناعية تأبى مساعدتها في ذلك وتنقلها لأحمد عبر "الكام"، فيصله جواب سؤاله بلا جواب.. ويقطع أحمد الصمت بالجملة الأكثر طمأنة التي حلمت بها.. "أنا موافق"، ثم يردف: "بس فيه شرطين.. أولًا: لازم يصارح عيلته ويوافقوا على الجواز و يباركوه.. وثانيًا: إننا نتأكد بكل السبل وناخد ضمانات بكل الأشكال إن علاقته انتهت بالناس دي للأبد، ويكمل في ريب: ولاّ هي مانتهتش؟. - لأ طبعًا من زمان.. ترد فزعة. - على خيرة الله، هارتب إجازة في خلال إسبوعين بالكتير وأنزلّك، خلي بالك من نفسك، أنا عارف إنك هيمانة.. بس عارف إنك جدعة وجامدة وميتخافش عليكي.. خلى بالك من نفسك على ما أجي أخلي بالي منك. تبتسم له في رضا وتقبل عدسة كاميرا اللاب توب، وتدعو له من قلبها بالرضا والسعادة.. وتغلق المحادثة على أمل بثّه في نفسها أن الموضوع ليس بالسوء الذي توقعته، لكنها تشرد من جديد حينما تذكر الشرطين.. الشرط الثانى بالذات.. - تبًا!.. تقولها لنفسها وتضحك بعدها فورًا.. "إيه تبًا دي كمان!". وبعد محاورات لا تنتهي كالعادة لشىء مع نفسها، تتصل به غير مدركة أنها الثالثة والنصف صباحًا إلا بعد أن يفتح الخط ويجيئها صوتها الحبيب، ليمد خطوط الارتياح بأوصالها.. - أيوه يا ميرا.. كنت عارف إنك مش هتنامي إلا لما تطمنيني - في محاولة لاستدراك الوقت المتأخر، تقول: عايزة أشوفك الصبح ضروري - خير! - خير وفي الصباح تقابله في أحد الأماكن المحببة إليهما بوسط البلد، الذي تعمه بالكامل رائحة القهوة ومخبوزات خرجت من الفرن لتوّها.. يجلسان ليستمتعان بخمس دقائق من"البحلقة " المستمرة، والتفرس في ملامح كل منهما دون أن ينطقا.. تلك العادة التي اكتسباها في بداية كل لقاء، دون أن يتفقا عليها، لكنهما وجدا فيها استمتاع باحتواء كل منهما للآخر بعينيه قبل أن يشتتهما الحديث.. وعندما حضر فطورهما بدآ في الحديث. أخبرته عن محادثتها مع "أحمد"، وبدا عليه التجهم لثواني.. والوجوم لأقل من ثواني.. ثم.. وبلا مقدمات.. انفجر ضاحكًا - محلولة بإذنك يا رب - هو إنت شايف إن الحكاية نكتة للدرجة دي؟ - أبدا.. بالعكس.. ده نكد السنين.. مستفزًا أكثر لعصبيتها الطفولية التي يحبها - وإيه الضحك بقى في نكد السنين. - "أنا هاطلب شاى بلبن ...اجيبلك معايا ؟؟ هاجيبلك معايا "