يمثل قرار الحكومة تحديد الحد الأدنى لأجور العاملين بالحكومة ب1200 جنيه شهرياً واحداً من تجليات ثورة 30 يونيو، وخطوة فى طريق الانحياز الاجتماعى للفقراء ومحدودى الدخل، لكن لا يجب أن نعتبرها هى الخطوة المعبّرة عن التوجهات الاجتماعية بعد الثورة. بدايةً، لا يجوز انتقاد تطبيق الأوضاع الجديدة فى يناير المقبل، فالطبيعى أن مثل هذه القرارات يحتاج إلى تدبير موارد حقيقية وإلا تحول القرار إلى نكبة اقتصادية وكارثة، إضافة إلى أن التأخير فى صدور القرار كان يؤشر لتوجهات حكومية معارضة لتلبية احتياجات الطبقات والفئات الأقل قدرة فى المجتمع. لكن الأمر يتطلب نظرة أوسع من ذلك، فالأجور فرع من حزمة السياسات الاجتماعية الجديدة المطلوبة، والتى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المواطنة الذى ثار من أجله الشعب المصرى مرتين فى 3 سنوات، ويستحق أن يعيشه ويجنى ثماره فى نهاية النفق بدلاً من الاستمرار فى المعاناة والتمرد على الواقع. من هنا فالحكومة مطالبة، وهى تبحث عن موارد تمويل رفع الحد الأدنى للأجور، صياغة سياسة جديدة تتمكن بها من توفير الخدمات الأساسية للأقل قدرة من تعليم وصحة وبيئة أساسية من مياه شرب وصرف صحى وسكن.. حتى تتوازن احتياجاته مع قدراته. وما يجب أن ننتبه له أن الشعب لم ينتفض من أجل ثورة اشتراكية أو لتأسيس مجتمع ليبرالى، لكنه انتفض من أجل حزمة من المتطلبات تجمع بين الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، الأمر الذى يتطلب فى المقابل إجراءات تتيح توفير الرعاية والخدمات للفقراء من جانب والحفاظ على حقوق بقية قوى المجتمع من جانب آخر، حتى يمكن تحقيق التوازن بين مفاهيم الحريات السياسية والاقتصادية. لقد عانينا سنوات طويلة من منح الأولوية للاقتصاد، متجاهلين أن الحريات هى أقوى الدروع لحماية التنمية، وحين منحنا الامتيازات للمستثمرين -وكانت حق- نسينا أن الفقراء يحتاجون للرعاية وحماية حقوقهم والاستفادة بعوائد الثروة كغيرهم باعتبارهم عماد التنمية وأساسها. لم تعد المسألة كيف ننزع من الأغنياء ثرواتهم لصالح الفقراء، ولا كيف ندفع الفقراء فى طريق الضغط على الأثرياء، ولم تعد عمليات التنمية تتم بالنوايا والشعارات العامة، ولا توفير احتياجات المحتاجين بالهتاف والخطابات السياسية، فقد أصبحت الحالة فى مصر تتطلب رؤية اجتماعية جديدة تعيد تنظيم الأوضاع. توفير الخدمات الأساسية للتجمعات الأقل قدرة والمحتاجة يحقق التوازن أو التعادل مع بعض الآثار السلبية لقرار رفع الحد الأدنى لأجور، كما أن تغيير نظرة الحكومة للتعامل مع منظمات المجتمع المدنى ودورها الاجتماعى يمكن أن يوفر ظهيراً مجتمعياً مهماً لتحقيق الاستقرار ومحاصرة ظواهر اقتصادية عشوائية مثل ارتفاعات الأسعار غير المبررة وخلافه. المؤكد أن مصر تعيش مرحلة استثنائية فى تاريخها لا تحتاج خلالها لرؤى تقليدية، وقرارات نمطية، ولا انحيازات بالشعارات والخطب الرنّانة، قدر ما تحتاج إلى رؤية استثنائية شاملة تستطيع الاستفادة من كل عناصر المجتمع الإيجابية وتوظيفها لتحقيق الانحياز الاجتماعى دون الإخلال بتوازنات المجتمع.