حالة من الحيرة أصابت الشارع المصرى بمجرد أن طرحت وزارة المالية رؤيتها لتنفيذ الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإدارى الذى يلزم الدولة بتحديد حد أدنى للأجور لا يقل عن 1200 جنيه شهريا، وهذا بدوره ما ترجمته الحكومة لاستراتيجية قومية لعلاج الخلل فى منظومة الأجور وذلك بأن تم تخصيص 7.5 مليار جنيه فى الموازنة العامة الجديدة لتنفيذ المرحلة الأولى لزيادة الأجور بحد أدنى700 جنيه يزيد 100 جنيه سنويا، ليصل الأجر إلى 1200جنيه بعد خمس سنوات. لكن المشكلة أنه بعد الإعلان عن هذه الإجراءات بدأت تساؤلات عدة لدى العاملين وأصحاب العمل سواء فى القطاع الحكومى أو الخاص. وتدور غالبية التساؤلات حول قدرة الحكومة على تنفيذ هذه الوعود، وقدرة القطاع الخاص على تنفيذ هذه الاستراتيجية، والآليات التنفيذية لمثل هذه الخطط الحكومية، وطريقة احتساب هذه الزيادة فى الأجور، وتأثير مثل هذا القرار على سوق العمل، الذى يعانى معدلات بطالة كبيرة ناتجة فى أغلبها عن تدنى كفاءة الأيدى العاملة فى مصر، وغير ذلك هناك الكثير من التساؤلات التى عجزت الحكومة عن الإجابة الشافية عنها لدرجة دعت البعض للقول بأن «الحكومة حضّرت عفريت وعجزت عن الخلاص منه». السفير جمال البيومى رئيس اتحاد المستثمرين العرب وصف هذا الأمر باللعبة السخفية التى صنعتها الدولة لإرضاء المجتمع الثائر، بلا جدوى حقيقية، لأنها قررت وبعد ذلك بدأت فى مناقشة القرار، وكأنها لم تتعلم من أخطاء الحكومات السابقة وأصرت على مواصلة سياسة سن القوانين لإجبار الناس على مخالفتها والإلقاء بها فى سلة المهملات، مؤكدا أن تنفيذ استراتيجية لزيادة الأجور اعتمادا على تكلفة المعيشة أو حد الفقر فى المجتمع سوف يحول كافة المؤسسات الاقتصادية إلى مؤسسات رعاية اجتماعية تستهدف مساعدة المحتاجين بعيدا عن حسابات المكسب وا?خسارة وهذا ما سيلحق ببنية الاقتصاد المصرى ضررا بالغا. واعترف بأن منظومة الأجور تعانى خللا هيكليا يستوجب التدخل الفورى لعلاجه، ولكى يكون هذا التدخل فاعلا وجادا كان من الضرورى أن يسبق هذا التدخل حوار مجتمعى جاد يشارك فيه مختلف الجهات المعنية بالقرار حتى يخرج القرار معبرا عن كافة الآراء ومستهدفا للصالح العام، مشيرا إلى أن الحد الأدنى للأجور لابد أن يتم تحديده وفقا للانتاجية، لأنه بدون ربط الأجر بالانتاجية سيكون تنفيذ القرار فى القطاع الخاص- الذى يستحوذ على 65% من قوة العمل- أمرًا فى منتهى الصعوبة. وبدورها أشارت د. منال متولى أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة إلى أن سياسة الأجور تحتاج للمزيد من الدراسات، وأن يكون الحد الأدنى مرتبطًا بالإنتاجية، وهذا يجعل من وضع مؤشر للإنتاجية أمرًا حيويًا للغاية، ويدل على أهمية وجود برامج حكومية فعالة للتدريب التحويلى، مشددة على أن الاتفاق على استراتيجية موحدة فى قضية الأجور أمر مهم للغاية، خاصة أن الأجور تشكل 44.4% من إجمالى مصادر الدخل للفقراء مقابل 42.1% لغير الفقراء، وبالتالى فإن مراجعة الحد الأدنى للأجور سيساهم فى توفير قوة شرائية لتحريك المجتمع من الركود الاقتصادى. وقالت د. منال إنه من الضرورى مراجعة الحد الأدنى للأجور فى مختلف القطاعات لتحقيق قدر من الاستقرار فى سوق العمل والتوازن بين مصالح كل من العمال وأصحاب الأعمال، خاصة أن الرصد الواقعى للحد الأدنى للأجور يؤكد وجود حدين أدنى وأقصى للأجور، حيث تتفاوت هذه القيم وفقا لمستوى المحافظات وهو ما يختلف عما تم تحديده قانونا كما أن مراجعته وتعديله وفقا للرقم القياسى للأسعار المعلن رسميا توضح تآكل قيمته الحقيقية. أما د. ماجدة قنديل المدير التنفيذى للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية فقد عابت على السياسة الحكومية المعلنة لعلاج الخلل فى هياكل الأجور بأنها ليست مرتبطة بسياسة متكاملة بل تركز على جانب واحد فى القضية وهو إرضاء العمال بإقرار زيادات لهم فى الأجر بعيدا عن قضايا التنمية الاقتصادية والتشغيل، مشيرة إلى أن تحقيق النجاح على صعيد الأجور يستلزم تبنى الحكومة لحزمة من السياسات تستهدف تحقيق حد أدنى للأجور بما لا يضر ببنية الاقتصاد حتى لا تكون هذه الزيادة وبالا على المجتمع. وأكدت أن تمسك الحكومة بما صدر عنها من قرارات بخصوص هذه القضية يعنى زيادة كبيرة فى البطالة، وبالتالى تسعى هذه السياسات لإسكات الشارع، ولن تؤدى إلى حماية المستوى الحقيقى للمعيشة، بل ستؤدى إلى المزيد من الفقر ما لم يتم ربطه بالانتاجية، لذلك لابد من تعويض القطاع الخاص بشكل آخر لتفعيل سياسات التوظيف بالتزامن مع الإلتزام بحد أدنى للأجور. وأشارت إلى أن السعى الحكومى لتحقيق العدالة الاجتماعية أمر لن يتم إدراكه بدون الاقتصاد الكفء، لذلك لابد من الاتفاق على حزمة من السياسات الاقتصادية التى تستهدف إعادة التوازن إلى الاقتصاد ليكون أكثر تنافسية وأكثر قدرة على الانتاج لسد الفجوة بين العرض والطلب والتوسع فى المشروعات الصغيرة فضلا عن إقرار حوافز ضريبية وتأمينية لأصحاب العمل لزيادة قدرة السوق على التوظيف. وطالبت بضرورة إدراك أن زيادة الأجور يمكن أن يترتب عليها تآكل الدخل، وأن تضع الأجندة الاجتماعية كل ما لديها من امكانيات لحماية العمال الموجودين فى القطاع غير الرسمى وذلك بإتاحة المزيد من فرص العمل فى القطاع الرسمى وتحفيز وحدات القطاع غير الرسمى على تقنين أوضاعه، مشددة على أنه يمكن استخدام الجزء الأكبر من مخصصات الدعم فى الموازنة العامة لتشغيل المزيد من العاملين، وذلك من خلال برامج جادة يشارك المجتمع المدنى فى تنفيذها. وبينماا تصف د. هبة حندوسة أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية الأسلوب الذى تتبعه الحكومة فى التعامل مع قضية الحد الأدنى للأجور بأسلوب الأيدى المرتعشة، وهو ما يبدو فى تضارب التصريحات والرؤى الصادرة بصدد هذه القضية عن الحكومة. وقالت إن المتعارف عليه أن تحديد الحد الأدنى للأجور الذى يستهدف الفئات المستضعفة وهى 40% من المجتمع، لابد أن يتم تحديده وفقا لأسعار سلة السلع الرئيسية، على أن يتم مراجعة هذا الأجر بشكل دورى كل 3 أو 5 سنوات، ثم يكون القرار بعد الدراسة الجادة التى تقنع مختلف الفاعلين فى السوق بجدوى القرار ثم يكون الإلزام بالتنفيذ، وهذا هو مربط الفرس، لأن القطاع الخاص فى مصر يقوم على الاستغلال، وبالتالى فلابد أن تكون هناك آليات واضحة للتنفيذ ومن لا يقدر على دفع الأجر العادل عليه أن يخرج من السوق. وأضافت أنها ضد الإعلان الحكومى الأخير الخاص بزيادة الأجور لأنه ممول بالعجز وكان من الممكن تمويل مثل هذه البرامج بخفض النفقات الحكومية ووضع حد أقصى للأجور، فضلا عن أن هذا الإعلان جاء فى توقيت سيىء للغاية لأن الظروف غير مواتية فقد عابت بالمرة للتراجع الحاد الذى يشهده الاقتصاد، مؤكدة أن هذا الرفض نابع من خوف على الدولة خاصة أن القطاع الخاص لديه من القدرة ما يمكنه من تحقيق الاستفادة من كل القرارات الحكومية ولو كانت مرتبطة بالحد الأدنى للأجور. وخلصت إلى أنها تخشى من أن تتحول الأمور إلى مجرد وعود وهمية وأن يتحول الحد الأدنى للأجور إلى زيادة فى التضخم إلى درجة تقلل من القيمة الحقيقية للدخل، لذلك فلابد من التركيز على الآليات الفعلية لتحقيق الحد الأدنى للأجور بعيدا عن الشكل الحالى المتبع والمتوقع أن يترتب عليه حالة من التضخم الجهنمي. أما عادل العزبى رئيس لجنة العمل باتحاد الصناعات فأكد أن مشكلة الاقتصاد المصرى تكمن فى أن قراراته يتم اتخاذها بعشوائية ، بعيدا عن الدراسات الجادة التى يحتاج إليها الاقتصاد المصرى بشكل كبير هذه الآونة، مؤكدا أن الالتزام بدفع 700 جنيه كحد أدنى للأجر لن يمثل مشكلة للقطاع الخاص لأنه لا يوجد من يعمل فى هذا القطاع بأقل من هذا المبلغ.