اليوم.. تحتفل الحكومة بعيد العمال.. وغدا تستقبل أمام أبوابها ظهرا وقفة احتجاجية ثانية من جانب القوى العمالية للمطالبة بحد أدنى للأجور.. وتستقبل معها ملفا مفتوحا على مصراعيه وربما لا يحتمل التأجيل. ملف الأجور سيكون الملف الأكثر إلحاحا على الحكومة هذه الأيام ليس بحكم المناسبة فقط، ولكن بفعل الاحتجاجات العمالية التى أصبحت السمة الغالبة، وأضحت حدثا يوميا يزيد من إلحاح هذا الملف. القوى العمالية، والتى استقوت بحكم محكمة القضاء الإدارى الذى صدر الشهر الماضى بإلزام الحكومة بتحديد حد أدنى للأجور، أعطت مهلة للحكومة حتى أول مايو لتنفيذ حكم المحكمة، وإلا فسوف يكون عليها منازلتها مرة أخرى فى ساحة المحاكم. «الشروق» تفتح ملف الأجور وتبحث عن أحوال 22 مليون مصرى يعملون، ويعولون بقية السكان. كيف يعيشون، وماذا يتقاضون؟ وكيف تتفاوت أحوالهم بين القطاع العام والخاص. وكيف تتباعد مواقعهم نساء ورجالا؟. وكيف يتمايز البعض منهم من سعداء الحظ الذين يعملون فى الحضر عن نظرائهم التعساء الذين قادهم حظهم للعمل فى الريف؟. وكيف يتقاسم الرزق كل من يقضى يومه فى لهيب النار داخل مصنع للحديد، مع من يعمل فى نشاط الكوول سنتر؟. وما هو الحد الأدنى المناسب للأجور الآن بعد أن كان آخر ما وصل إليه فى عام 1984 هو 35 جنيها؟ وهل يتحدد على أساس احتياجات البطون، أم طبقا لأسعار السوق، أم بقدر ما يستطيع لحاف الحكومة أن يغطيه؟. وهل تستطيع الحكومة أن تلزم أصحاب الأعمال بتنفيذ الحد الأدنى على العاملين لديها مثل غيرها من الدول التى تفرض غرامات على المخالفين؟ وهل من سبيل لدحض تخوفات الحكومة من أن يلتهم التجار زيادات الأجور قبل أن يجف قلم التوقيع عليها؟. وهل مازال سوق اللحوم هو مقياس التصنيف الطبقى للموظفين فى مصر بين من يقدرون على الشراء، وبين من يمتنعون لدواعى تدنى الراتب؟. 22.9 مليون مصرى فقط هم من يعملون حاليا، ويحملون على أكتافهم باقى ال80 مليونا من المصريين، و70% منهم هم من يعمل بانتظام، بينما 18% يعملون بشكل متقطع، والباقى يعمل إما مؤقتا وإما موسميا. ولايزال القطاع الحكومى يستوعب نحو 42 % من إجمالى القوى العاملة، بينما يصل نصيب القطاع الخاص المنظم إلى 25%، بينما لا يزيد من يعمل فى القطاع العام على 4.6%، والقطاع الاستثمارى (2.1%)، فى حين أن القطاع التعاونى والأجنبى لا يمثل سوى أقل من 1%. ولايبدو أن العمل وحده قادرا على إخراج المصريين من فقرهم، لأن هناك 48.5% ممن يعملون بأجر يقعون ضمن شرائح الفقر المختلفة، ما بين فقر مدقع وفقر، وقريبى الفقر. وتزيد هذه النسبة فى الريف حتى أنها تتعدى نصف العاملين بأجر، بينما هذه النسبة تطال ربع من يعمل بأجر فى الحضر تبعا لبيانات البنك الدولى. مكمن الخطورة «واتجهت خصائص سوق العمل فى مصر على عكس المستهدف، فبدلا من أن يستوعب القطاع الخاص المنظم المزيد من قوة العمل، انضمت معظم العمالة التى لحقت بالقطاع الخاص إلى القطاع غير الرسمى، وأصبح الآن يستوعب 67% من إجمالى المشتغلين فى القطاع الخاص، وترتفع هذه النسبة إلى 82% فى الريف» تبعا لما يقوله عبدالفتاح الجبالى نائب رئيس مركز السياسية والإستراتيجية بالأهرام وعضو المجلس القومى للأجور. والقطاع غير المنظم لم يعد مجرد احتياطى للقطاع المنظم، بل أصبح فاعلا أساسيا بالأسواق، وهنا مكمن الخطورة لأن العاملين فيه يعملون بدون عقود رسمية وغير مسجلين فى التأمينات الاجتماعية تبعا للجبالى. والذى أضاف أن نسبة العاملين بعقود قانونية لدى القطاع الخاص لا تتجاوز 36% من إجمالى العاملين بهذا القطاع، ووصلت نسبة المشتركين لدى التأمينات الاجتماعية إلى 45% فقط. وتجزئة سوق العمل فى مصر بشكل عام خلقت تعقيدات فى الأوضاع الأجرية على حد تعبير الجبالى. «على الرغم من استيعاب القطاع الخاص نحو 68% من العمالة إلا أن نصيبه من الأجور على المستوى القومى قد وصل إلى 54% من الإجمالى، وهذا يعكس انخفاض متوسط الأجر فى القطاع الخاص مقارنة بقطاعات الاقتصاد القومى، حيث يبلغ متوسط الأجر الشهرى للذكور فى القطاع العام 684 جنيها مقابل 576 لدى القطاع الخاص، ولا يزيد الأجر فى القطاع الخاص على العام إلا فى قطاعات الوساطة المالية والعقارت والتعدين» تبعا لعضو مجلس الأجور. ويؤكد الجبالى أن متوسط الأجر الحقيقى للموظفين قد شهد اتجاها تصاعديا وصل إلى 8755 جنيها فى عام 2007/ 2008 بزيادة قدرها 3920 جنيها خلال 9 سنوات بسبب العلاوات والمنح. (أى أن متوسط الزيادة فى الدخول شهريا خلال تلك الفترة تبلغ 36 جنيها). الغلبة للمكافآت والمزايا وقال إن عدد العاملين بأجهزة الدولة يبلغ حاليا 5.9 مليون موظف، تقع أغلبيتهم فى الدرجة الثانية. إلا أن هناك اختلالا فى توزيع الأجور يحدده الجبالى فى أن الأجور الأساسية لا تشكل سوى نسبة 20% فقط من إجمالى الأجور حاليا. بل إن الأجور المتغيرة التى تشمل المكافآت والبدلات تصل نسبتها فى بعض الأحيان إلى 217% من الأجور الأساسية فى الجهاز الإدارى. ولكنها تنخفض نسبتها فى الإدارة المحلية. ويذكر أن إجمالى الإنفاق على الأجور فى الموازنة الحالية يبلغ 87 مليار جنيها لا يزيد المنفق منها على الأجور الأساسية سوى 17 مليار جنيه، بينما تبلغ قيمة المخصص لبند المكافآت والمزايا النقدية 40 مليار جنيها طبقا لموازنة الدولة على موقع وزارة المالية. وعلى الرغم من تزايد الإنفاق على الأجور فى القطاع الحكومى منذ عام 2000/2001 وحتى موازنة العام الحالى والتى وصل فيها إلى 87 مليار جنيه فإن نسبته إلى إجمالى المصروفات العامة قد انخفضت من 27% إلى 22.5% خلال هذه الفترة كما يقول الجبالى. ويطالب عضو المجلس القومى للأجور بالتعامل الجدى من ملف الأجور عن طريق إعادة النظر فى جداول الأجور للعاملين فى الدولة. فمن غير المعقول أن تكون العلاوة الدورية حاليا بين 1.5 جنيه شهريا للدرجة السادسة، و6 جنيهات للدرجة العالية. وقال آن الآوان أن يتم وضع حد أدنى للأجور يتناسب مع ظروف المعيشة بدلا من الحد الحالى عند 35 جنيها. ويفضل الجبالى أن يكون هذا الحد مختلفا بين قطاع وآخر حسب الجهد الذى يبذله العامل، وليس على مستوى المجتمع ككل مشيرا إلى أن هذا الحد يجب أن يزيد على حد الفقر وهو يبلغ فى مصر حاليا 205 جنيهات شهريا للفرد وأن يقل عن متوسط دخل الفرد فى مصر ويبلغ 1138 جنيها شهريا. وبذلك يقترح الجبالى أن يكون هذا الحد يتراوح بين 500 و600 جنيه شهريا. غرامات على المخالفين «وهناك معايير دولية يتم الاستناد إليها عند تحديد الحد الأدنى للأجور. فيجب ألا يقل هذا الحد عن خط الفقر القومى، ضمانا لحصول العامل وأفراد أسرته على احتياجاتهم الأساسية الغذائية، وغير الغذائية. وفى نفس الوقت يجب ألا يتجاوز هذا الحد نصف المتوسط العام للأجور الشهرية فى الاقتصاد القومى خوفا من أن تؤدى المغالاة فى قيمته إلى رفع تكلفة الإنتاج. مما قد يدفع أصحاب الأعمال إلى عدم الالتزام به، أو يؤدى إلى تقليل فرص العمل المتاحة فى القطاع الرسمى» تبعا لما تراه أمنية حلمى استاذ الاقتصاد فى جامعة القاهرة، واقتصادى أول بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية. وأكدت حلمى أن غالبية الدول تعمل على المحافظة على القيمة الحقيقية للحد الأدنى للأجور حتى لا تتآكل بمرور الوقت. لذا فالحكومات تقوم بإعادة حساب وتعديل الحد الأدنى للأجور وفقا للتغيرات المتعلقة بارتفاع الأسعار، وبعد التشاور مع منظمات الأعمال والنقابات العمالية والمهنية والجهات الأكاديمية المستقلة على حد قولها. وفى 75% من دول العالم يتم مراجعة الحد الأدنى للأجور فى فترات زمنية تزيد على سنة. أما فى باقى الدول فتتم المراجعة سنويا طبقا لما تؤكده حلمى. «ومراجعة الحد الأدنى ضرورية بسبب المتغيرات التى قد تلحق بمتوسط حجم الأسرة، وعدد أفرادها الذين يعملون بأجر، أو قد يرتفع متوسط إنتاجية العامل، بما يبرر رفع الحد الأدنى، أو قد يرتفع المتوسط العام للأجور مما يلزم معه رفع الحد الأدنى للمحافظة على الهيكل النسبى للأجور» تبعا لحلمى. وتؤكد حلمى أن 75% من دول العالم تفرض غرامات مالية على صاحب العمل فى حالة عدم التزامه بسداد الحد الأدنى لأجور العاملين لديه. وتتراوح هذه الغرامات بين 25% إلى 200% من قيمة الحد الأدنى للأجور مضروبة فى عدد العمال الذين وقعت فى شأنهم المخالفة. وفى بلد مثل الصين تصل هذه الغرامة إلى خمسة أضعاف قيمة الحد الأدنى للأجر المحدد للعامل. التحيز للريف وتقترح حلمى أن يتم التحيز إيجابيا فى وضع الحد الأدنى للأجرلصالح المناطق الريفية بالصعيد التى ينتشر فيها الفقر وبعمق، لأن 75% من فقراء مصر يتركزون فى المناطق الريفية ويقطن حوالى 64% من إجمالى الفقراء فى الصعيد، بينما نسبة من يعيش فى الصعيد لا تتجاوز 37% فقط من عدد السكان تبعا لحلمى. وتشير حلمى إلى أن الحد الأدنى للأجور لايزال حتى الآن هو ذاته (35 جنيها) الذى تم تحديده منذ عام 1984، والذى كان يعادل وقتها 60% من نصيب الفرد من الناتج المحلى، إلا أنه انخفض ليصبح عند 6% من نصيب الفرد من الناتج فى عام 2005. الأجر أو الحبس أما النائب الناصرى حمدين صباحى، والذى تقدم إلى فتحى سرور رئيس مجلس الشعب باستجواب لرئيس مجلس الوزراء ووزير التنمية الاقتصادية حول تقاعس الحكومة عن تحديد حد أدنى للأجور وتجاهل تنفيذ حكم محكمة القضاء الإدارى الذى يقضى بذلك، فيؤكد أن فرض حد أدنى للأجر أصبح واجب التنفيذ بعد الحكم ولا يمكن للحكومة أن تتنصل منه. وقال النائب إنه يجب أن تلعب الدولة دورها المنوط بها لضبط الأسعار للحيلولة دون استغلال القلة المحتكرة لهذه الزيادة. وأشار إلى أن هذا الحد الأدنى يجب أن يكون فى النطاق الذى يضمن حياة كريمة للمواطنين فى مصر، ويحقق التوازن بين الأجور والأسعار، ويكفل تقريب الفوارق بين الدخول. وذلك تطبيقا لمواد الدستور والإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والميثاق العربى لحقوق الإنسان والتى صدقت عليها مصر. وقال صباحى إن الحكم أثبت مخالفة المجلس القومى للأجور لقانون إنشاء المجلس نفسه بتحديد حد أدنى للأجور كل ثلاث سنوات بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار وذلك منذ إنشائه فى 2003. وأكد أن الحكم القضائى الصادر من محكمة القضاء الإدارى حكم واجب النفاذ، ولا يجوز إيقاف تنفيذه إلا بحكم من دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا لافتا النظر إلى أن المادة 23 من قانون العقوبات المصرى تجرم أى امتناع أو تعطيل فى تنفيذ أحكام القضاء دون مبرر من القانون. وقال إنها تنص على معاقبته بالحبس والعزل «وبذلك ليس أمام الحكومة إلا تنفيذ الحكم وتحديد حد أدنى للأجور» تبعا لصباحى.