أجواء تبدو هادئة فى منطقة رفح الحدودية نهاراً، وكمائن الجيش منتشرة على طول الطريق الدولى، والقوات ترفع درجة الاستعداد القصوى لمواجهة الإرهابيين فى أخطر منطقة أمنية بمصر. الحياة فى المنطقة الحدودية طبيعية صباحاً، مشتعلة ليلاً بصوت طلقات الرصاص والقذائف الثقيلة، حيث تعود أهالى المنطقة على سماع تلك الأصوات منذ ثورة يناير 2011 وحتى الآن. الطريق إلى نقطة «الحرية» الحدودية التى قُتل بها 16 جندياً مصرياً فى رمضان الماضى ليس سهلاً، حيث يصعب دخول الغرباء إليه بسبب وجود كمين الماسورة الذى يقع على بعد نحو 500 متر من معبر رفح، نقطة «الحرية» تقع على يمين كمين الماسورة وتبعد عنه مئات الأمتار. فى بداية الطريق القصير المؤدى إلى نقطة «الحرية» ومعبر كرم أبوسالم بالحدود الإسرائيلية توجد بعض المحال التجارية والمقاهى، على امتداد الطريق تتراص بيوت سكنية منخفضة وبدائية. حركة مرور الأفراد والدراجات النارية والسيارات ضعيفة جدا فى ساعات الصباح الأولى، لكنها تزيد بعد الظهر وحتى أذان المغرب. وجوه الوافدين على المنطقة من خارج أهالى سيناء معروفة لدى السكان وقوات الجيش، حيث يدققون النظر إليهم ويسألونهم عن سبب وجودهم فى هذا المكان إن لم يكونوا بصحبة أحد أهالى المنطقة. قرية الحرية التى تتوسطها نقطة حرس الحدود التى شهدت المذبحة يقترب عدد سكانها من 1000 نسمة، بها مدرسة ابتدائية تجاور النقطة مباشرة أعلى معبر كرم أبوسالم، على الحدود الإسرائيلية يوجد «بالون» إسرائيلى طائر لمراقبة الحدود مع مصر وتصوير كل ما يحدث على مدار 24 ساعة. نقطة «الحرية» الحدودية تبعد عن الخط الحدودى مع إسرائيل نحو 1000 متر، محاطة بالسلك الشائك من كل جانب، وخلف السلك توجد بعض أشجار الزيتون، ثم سور خارجى تم بناؤه مؤخرا عقب مذبحة الجنود، إضافة إلى غلق الشارع بمتاريس حديدية وأسلاك شائكة. أعلى مبنى النقطة يقف أحد الجنود تحت مظلة حديدية ممسكاً بسلاحه الميرى يراقب الوضع عن كثب. بوابة النقطة مغلقة تماما لا يقترب منها أحد، ويجاور النقطة مدرسة الحرية الابتدائية، فيما تُحيط البيوت السكنية المنخفضة بها فى معظم الاتجاهات، خاصة الطريق المؤدى إلى معبر كرم أبوسالم. شاهد أهالى قرية الحرية وقائع مذبحة رفح وألموا لفراق الجنود الذين كونوا معهم صداقات طول فترة خدمتهم بالنقطة. عزمى سعيد حماد، 40 سنة، من أهالى قرية الحرية، يروى تفاصيل الحادث الذى مر عليه عام كامل ولم يتم الإعلان حتى الآن عن أسماء منفذيه: «فى هذا اليوم المشئوم ذهبنا لتناول الإفطار عند بيت خالى بجوار النقطة، بعد أذان المغرب تناولنا البلح والماء، ثم قمنا لأداء صلاة المغرب، وأثناء الصلاة سمعنا صوت إطلاق نار كثيف، كان الصوت مرتفعا جداً يدوى فى أرجاء المكان، فور أن انتهينا من صلاتنا توجهنا إلى النقطة مكان إطلاق النار، فوجدنا 3 سيارات (كروز) نصف نقل و(تويوتا) دفع رباعى تايلاندى، وأخرى ملاكى (كيا) توقفت جميعا أمام باب النقطة، حاولنا الاقتراب منها لكن الإرهابيين حذرونا من الاقتراب منهم، وأطلقوا أعيرة نارية فوق رؤوسنا وتحت أقدامنا لتخويفنا. كان يفصل بيننا وبينهم نحو 50 متر، قلنا لهم: حرام عليكم دول ذنبهم إيه؟ ثم تابعنا: الجيش جاى، الجيش جه. إحنا قلنا كدا عشان يخافوا ويسيبوا النقطة، اتهزوا شوية، لكن برضو ما مشيوش وفضلوا يضربوا فى العساكر. فى بداية الحادث وصل عددنا إلى 150 شخصاً، وفى نهايته زاد عددنا على 500 شخص، القرية كلها كانت بره». ويتابع «عزمى» حديثه قائلا: «العساكر كانت قاعدة تفطر بين الشارع والنقطة، وفارشين حصيرة ياكلوا عليها، الإرهابيين أول ما وصلوا ضربوا الاتنين العساكر اللى فوق السطح وطلعوا فوق أخدوا السلاح المتعدد ورموه لزمايلهم من فوق، وبعدين نزلوا ضرب فى كل العساكر». عقب على كلام «عزمى» ابن خالته عيسى محمد، 19 سنة، قائلا: «لما شفت الضرب كدا أخدت المكنة بتاعتى، وطلعت على كمين الماسورة على بعد 500 متر من هنا وقلت للضابط: العساكر بتتقتل تعالى شوف فيه إيه. قال: ملناش نقطة هناك. ومارضيش ييجى معانا، قمت راجع تانى»، وأكمل: «لو كان جه معايا كان لحق باقى العساكر من القتل، لكن خايف يسيب الكمين عشان ما ينضربش». يصمت «عيسى» قليلا وينخفض صوته قائلا فى حزن بالغ: «كنا عارفين كل العساكر دى، وفيه بينا وبينهم ود كبير، لما كانوا بيحتاجوا حاجه، سجاير أو كروت شحن، كنا بنروح نجيبها لهم من عند كمين الماسورة أو المعبر، ولما كنا بنشوفهم ماشيين وشايلين الشنط بنعرف إنهم نازلين إجازة، برضو كنا بنوصلهم لحد الكمين أو المعبر». وتابع الشاب: «كانوا طيبيين ويتعاشروا بجد، كان فيه شاب لقبه (الدولى) وآخر أسمر اللون اسمه بغدادى، كان صاحبى بيخدم فى المعبر، وبعدين اتنقل للنقطة، وكنت أعرفه كويس من ساعة ما كان فى المعبر، لما شفته وهو ميت تعبت نفسياً وتأثرت أوى، ومن ساعة اللحظة دى بقيت كل ما اشوف دم أدوخ وأتعب نفسياً». إلى جوار الشاب كان يجلس رجل آخر، قمحى اللون، اسمه عزيز أبوعمر، 37 سنة، قال فى حماس: «دخلنا النقطة فوجدنا الجنود متكومين على الأرض، مات بعضهم وبقى قلة آخرون على قيد الحياة، أُصبنا بحالة من الفزع والرعب من المنظر، الجنود كانوا غارقين فى الدماء، وآخرون يلفظون أنفاسهم الأخيرة بكلمة (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، مات بعضهم وأفواههم مليئة بالطعام فيما قُتل آخرون وفى يدهم معالق بها أرز، ما كانوش لسه فطروا». واستطرد: «تركنا الأموات، واتجهنا إلى المصابين لنقلهم إلى مستشفى رفح، لعلنا ننقذهم من الموت، مات 16 جندياً وأصيب 6 آخرون، ورفض طبيب مستشفى رفح علاج الحالات المصابة فقمنا بالاعتداء عليه، رفض علاجهم كان غير مبرر»، وأضاف: «فيه بنى آدم قدامك بيموت، مش تنتظر تعمل ورق رسمى، الدين بيقول كدا. مستشفى رفح أصلا مش مستشفى، دا مقلب زبالة، مافيهوش أى خدمات». هؤلاء الإرهابيون كانوا مدربين على أعلى مستوى، فلم تخطئ طلقة طريقها إلى رأس أو صدر جندى: «دول مش منا وطريقة كلامهم مش زيينا، دول أولاد حرام، كانوا ملثمين ويرتدون ملابس خضراء، إحنا طول عمرنا بنحب الجيش وبنحترمه عشان هو اللى بيحل مشاكلنا عكس الداخلية، شفنا ضرب الجنود بأعيننا، منظر كان يشيب، ضربوا كمان عسكرى بالرصاص عشان يسوق المدرعة اللى دخلوا بها إسرائيل، وهما طالعين على هناك قالوا: ع اليهود ع اليهود، الله أكبر الله أكبر». وتابع «عزيز»: «بعد مغادرة الإرهابيين بدقائق قليلة سمعنا صوت انفجار ضخم ورأينا طائرة إسرائيلية فى سماء المكان، عرفنا فيما بعد أنها كانت فى انتظار المدرعة داخل الحدود الإسرائيلية، حملت مجموعة منا المصابين إلى المستشفى والكمين، بينما انتظر آخرون بالنقطة حفاظاً على الأسلحة والذخيرة الموجودة بالمكان حتى يأتى الجيش». واستطرد: «عملية قتل الجنود استغرقت نحو نصف الساعة، لكن الإسعاف وقوات الجيش لم تأتِ إلا بعد مرور ساعة ونصف منذ بداية الحادث. الجيش لازم يغير الاتفاقيات ويدخل أسلحة متطورة، واحنا عارفين إنه معذور ما يقدرش يضرب وياخد راحته عشان ما يموتناش، فى الأحداث الأخيرة دى الطيران كان بيقف فوق رؤوسنا وكنا بنخاف ليضربنا لكن الحمد لله ربنا سلم، لازم يدخل سلاح كتير، ولو عاوزنا نضرب معاه مش هنتأخر، الإرهابيين دول عاوزين يضربوا العساكر عشان يمشوهم وبعدين هيمشونا إحنا». واختتم «عزيز» حديثه مستغرباً: «هل من المعقول عدم كشف هوية منفذى العملية بعد مرور عام كامل على المجزرة؟!». رصدت «الوطن» خلال جولتها بالمنطقة الحدودية تخزين كميات كبيرة من البضائع ومواد البناء فى شوارع الأماكن المحيطة برفح، استعداداً لتهريبها إلى قطاع غزة عبر الأنفاق، حيث انتشرت بكثرة شون تخزين الأسمنت والسكر فى القرى التابعة لمدينة رفح وبعض شوارع المدينة. كمائن الجيش المنتشرة حول مدينة رفح أجبرت الشاحنات المحملة بالأسمنت على الرجوع. تهريب البضائع إلى غزة أصيب مؤخراً بحالة ركود بعد سيطرة الجيش على الأنفاق وهدمه عدد كبير منها، حيث شكا بعض المهربين من تضييق قوات الجيش على تجارتهم، وقال أحدهم رافضاً ذكر اسمه: «معانا بضاعة مش عارفين ندخلها بقالنا أسبوعين، وزى ما انت شايف العربيات النقل بتقعد تلف كتير عشان تعدى عند الأنفاق وما بتعرفش تعدى، عشان كدا بتنزل البضاعة فى أماكن قريبة من الأنفاق، وفيه عربيات صغيرة بتنقلها جوه رفح». وأضاف المهرب، الذى يبلغ من العمر 27 سنة: «رغم تضييق الجيش على المهربين وأصحاب الأنفاق فإن عددا لا بأس به من الأنفاق ما زال يعمل إلى الآن، معظمهم بوسط المدينة فى المناطق المتاخمة لرفح المصرية بمنطقة صلاح الدين»، وأشار إلى أن شاحنات نقل الأسمنت تحضره من مصانع الأسمنت بالعريش، حيث يبلغ سعر «الشيكارة» الواحدة المهربة إلى قطاع غزة 250 جنيهاً، بينما تباع داخل شمال سيناء بسعر 50 جنيهاً للشيكارة، ورغم أن الأسمنت متوافر بشكل كبير فى مخازن مدينة رفح والأماكن المحيطة بها، فإن التجار لا يقومون ببيعه إلى أبناء المدينة حتى يحققوا أرباحاً مرتفعة. وذكر أحد أهالى مدينة رفح أن أصحاب الأنفاق يطلقون النيران من أسلحة ثقيلة على كمائن الجيش المنتشرة بالمدينة حتى يستطيعوا إدخال بضائعهم إلى الأنفاق.