تعرضت مصر خلال الأيام الماضية لموجات متفاوتة من السيول فى بعض محافظات الجمهورية أدت إلى حدوث انهيارات وتصدعات بالطرق وإعاقة حركة المرور فى شوارع المدن والقرى المتضررة منها، حيث تسببت تلك الكارثة فى وفاة أكثر من 25 مواطناً وإصابة العشرات، وبما يمكن تصنيفها ضمن الكوارث المتوسطة نتيجة حدوثها فى أكثر من محافظة وارتفاع حجم الخسائر البشرية والمادية بها، وقد سارعت مؤسسات الدولة المعنية على مختلف مستويات إدارة الكارثة (الاستراتيجية والقومية والمحلية) للحد من أخطار تلك الكارثة والمساعدة فى احتواء آثارها من خلال جهود التعامل معها ومحاولة التخفيف عن المواطنين المتضررين منها، وتقديم أوجه الرعاية اللازمة لهم، وذلك فى ضوء توجيه السيد رئيس الجمهورية بتخصيص حوالى 50 مليون جنيه لاحتواء آثار تلك الكارثة ومساعدة المتضررين من السيول، إضافة إلى 50 مليون جنيه لاستعادة كفاءة البنية التحتية وإعادة إعمار ما خلفته السيول من أضرار. وبداية أود أن أوضح أن الكوارث الطبيعية لا يمكن لأى دولة أن تمنع حدوثها، ولكن النجاح يحسب على أساس مدى القدرة على احتواء خسائرها والحد من مخاطرها على المجتمع، لا سيما أن التغيرات المناخية تسببت فى حدوث متغيرات فى الطقس والبيئة بصورة غير مسبوقة، وعلى سبيل المثال كمية الأمطار التى سقطت على مدينة رأس غارب يوم الخميس الماضى بلغت نحو 120 مليون متر مكعب فى سابقة لم تشهدها المدينة خلال العقود الماضية، وبالتالى فهناك حاجة لإجراء دراسات جديدة لحجم الأمطار المتساقطة على الجمهورية، وإعادة النظر فى خريطة مخاطر السيول التى سبق إعدادها بمعرفة مسئولى وزارة الرى حتى يتسنى تحديث مناطق مخرات السيول وكذا المواقع التى يمكن تخزين مياه الأمطار بها حتى تكون مصدر نعمة ورزق ورخاء للمواطنين. ومع تصاعد وتيرة وخطورة الأزمات والكوارث فى مصر، أصبح هناك ضرورة قصوى للانتقال من ثقافة الانتظار إلى ثقافة المنع والقدرة على المواجهة والصمود، فعندما تقع الكارثة تخلف وراءها خسائر فادحة فى الأرواح أو يترتب عليها تدمير لسبل المعيشة، خاصة فى المناطق التى يتزايد فيها عدد الفقراء والفئات المهمشة، والتى يكون تأثير الكوارث أسوأ بكثير بالنسبة للمواطنين المقيمين فى المناطق النائية والمنعزلة، نظراً لعدم قدرتهم على النفاذ إلى المعلومات والاتصالات الأساسية وتلقى الإنذارات وتقديم المعلومات فى حالات الطوارئ، حيث تقع مسئولية إنقاذ الضحايا على عاتق المواطنين أثناء الساعات الأولى التى تعقب وقوع الكارثة، وبالتالى فإن الافتقار إلى الأدوات والمعلومات المهمة فى عملية الإنقاذ مثل أنظمة التحذير المبكر والبنية التحتية للاتصالات، وعدم توافر الاحتياطيات سريعة الحركة فى كافة المحافظات يؤدى إلى مضاعفة الخسائر وعرقلة جهود الإنقاذ. تحتاج إجراءات مواجهة وإدارة الأزمات والكوارث لتضافر الجهود والإمكانيات بين وزارات الدولة (الدفاع - الداخلية - التضامن الاجتماعى - الزراعة - الموارد المائية.. )، والتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدنى، ارتباطاً بدورها التطوعى فى خدمة المجتمع، مثل المنظمة المصرية للإغاثة الإنسانية، وجمعيات الهلال الأحمر، ومصر الخير، والأورمان، وبنك الطعام، وغيرها من منظمات المجتمع المدنى الوطنية التى تعمل فى مواجهة الأزمات والكوارث، حيث تعتمد الجمعية على النشاط الأهلى الذى يوازى ويكمل النشاط الحكومى وذلك عن طريق الجهود التطوعية للأعضاء والمتطوعين، حيث تظهر أنشطة ومهام تلك المؤسسات فى تقديم الخدمات للمجتمع (الإنسانية - الطبية - الاجتماعية) وإعداد برامج توعية وتدريب فى مجال إدارة الأزمات والكوارث إيماناً منها بأن التدريب يقلل من الآثار السلبية الناتجة عنها، سواء فى مرحلة ما قبل الكارثة بإعداد الدراسات المتعلقة بالكوارث التى حدثت فى مصر وتوفير التمويل اللازم لتنفيذ مشروعات تنمية تخفف من إمكانيات واحتمالات حدوثها، أو فى موقع الكارثة بتحديد الإجراءات العاجلة اللازمة لمواجهتها، وتعبئة الموارد الشعبية لمواجهة الكارثة عن طريق فرق الإغاثة، فضلاً عن المساهمة فى إعادة التأهيل للمناطق المتضررة بفعل الكارثة، وذلك عن طريق خدمات الرعاية العاجلة للمتضررين وإنشاء معسكرات الإيواء المؤقتة وإعادة التأهيل للمتضررين من الأزمات والكوارث. وكنت أتمنى أن أرى من رجال الأعمال والشركات التجارية الكبرى وشركات الاتصالات التى حققت أرباحاً طائلة من وراء الشعب المصرى أن يستغلوا هذه الكارثة ليقدموا نموذجاً فى العطاء ورد الجميل لهذا الشعب بالمساهمة فى تمويل جهود الإغاثة وتشجيع الجمعيات الأهلية على تقديم الخدمات للمتضررين من السيول، ولكن للأسف لم نلمس منهم أى قدر من التعاطف مع الأزمات والكوارث التى تتعرض لها الدولة، بل إن بعضهم يستغل حدوثها لاحتكار السلع والمنتجات لتحقيق كسب غير مشروع والمزايدة على مؤسسات الدولة لتحقيق مصالح ذاتية على حساب المجتمع المصرى، مع استغلال بعضهم للقنوات الفضائية التى يمتلكونها لتمرير مواقف وتصريحات تخدم أهدافهم التى قد لا تتسق مع الأهداف القومية وتؤثر على مكانة الدولة وعلاقاتها الخارجية، فالدولة لن تتسول منهم المساعدة ولكن ليس من العدل أن تقدم الدولة 100 مليون جنيه لإغاثة المتضررين فى الكارثة ولا تكلف تلك الشركات نفسها فى المساعدة على تحقيق العدالة الاجتماعية. امتد تأثير تكنولوجيا المعلومات ليشمل كافة جوانب التخطيط الاستراتيجى للدولة، ومن ثم تبرز أهمية الاستفادة منها فى معالجة الكوارث الطبيعية، ويمكن لوسائل الإعلام غير التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعى (فيس بوك - تويتر - يوتيوب) أن تلعب دوراً مهماً فى إعادة تشكيل كيفية الاستجابة للكوارث الطبيعية ومواجهة الأزمات، خاصة مع تزايد استخدامها عبر الهواتف المحمولة، الأمر الذى جعل الهواتف المحمولة أداة حاسمة أثناء إدارة الأزمات والكوارث، حيث نجد أن أكثر من نصف مستخدمى تلك المنصات الاجتماعية يعتبرونها المصدر الرئيسى فى الحصول على الأخبار، خاصة مع قيام مراسلى الصحف والقنوات الفضائية بالبث المباشر من مواقع الأحداث، كذلك يستخدم المسئولون تلك الوسائل كجزء من أدواتهم المعلوماتية، ومن أشهر الكوارث التى تم الاستعانة فيها بوسائل الإعلام الاجتماعى، «إعصار إيرين» و«إعصار ساندى» و«إعصار بوفا» من خلال استخدام موقع تويتر فى تنسيق الملاجئ والأغذية وغيرها من جهود الإغاثة للمتضررين. وتفرض التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية التى تواجه مصر أن تصبح منظومة إدارة الأزمات والكوارث فى مصر من أهم أولويات العمل الوطنى، مع اتباع أسلوب متطور وجاد لدرء ومعالجة الأزمات والحد من مخاطر الكوارث، والتخطيط لمواجهتها والعمل على تقليل الخسائر الناتجة عنها والحماية من المخاطر المتوقعة بعد معرفة الإمكانيات والقدرات المتاحة والمستهدفة من أجل الإحاطة بالواقع ومعطياته كمنهج أساسى، فإدارة الأزمات ليست غاية فى حد ذاتها، وإنما هى هدف مستمر لتحقيق الأمن القومى للدولة وتحقيق الأمن والأمان وصولاً إلى الرفاهية للشعب. وهنا تبرز أهمية بناء منظومة قومية لإدارة الأزمات والكوارث، ويمكن الاستناد إلى ما تضمنته المادة (205) من الدستور المصرى لعام 2014 بشأن تكوين مجلس الأمن القومى برئاسة رئيس الجمهورية، الذى يختص بإقرار استراتيجيات تحقيق أمن البلاد، ومواجهة الكوارث والأزمات بشتى أنواعها واتخاذ ما يلزم لاحتوائها، وتحديد مصادر الأخطار على الأمن القومى المصرى فى الداخل والخارج، والإجراءات اللازمة للتصدى لها واحتوائها على المستويين الرسمى والشعبى، باعتبارها أساساً قوياً للانطلاق لتطوير منظومة إدارة الأزمات والكوارث بسند من الدستور لاستكمال آليات ومستويات وأساليب التنسيق التى تتيح تفعيل المنظومة وزيادة فاعليتها لتحقيق أهدافها، مع أهمية الاستفادة من التجارب الدولية، حيث اهتمت أغلب الدول المتقدمة بوجود منظومات لإدارة الأزمات ومجابهة الكوارث على المستوى القومى وتحت قيادة أعلى المستويات السياسية والتنفيذية مع الاعتماد على التخطيط الاستراتيجى والتنسيق الفعال بين المؤسسات المعنية داخل هذه المنظومات، بالإضافة إلى التدريب والبحث والتطوير والاستفادة من التطور الكبير فى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتنسيق مع المنظمات الدولية لدعم جهود الإغاثة مع الحرص على بناء قدرات العاملين فى وسائل الإعلام ورفع الوعى لدى المواطنين فى حالات الأزمات والكوارث.