ووفقا لما يطرحه الخبراء, فإن نسق مجابهة الأزمات والكوارث واضح من الناحية النظرية, ويتألف بصورة عامة من أولا حصر مصادر الكوارث المتوقعة, وهي الكوارث التي وقعت لأنظمة مماثلة محليا ودوليا وللحق فإن رد الفعل من جانب الدولة جاء سريعا من مستويات مختلفة بدأت برئاسة الجمهورية فكانت الشرارة التي حركت كما هي العادة الأجهزة التنفيذية الأخري لمواجهة الأضرار التي أصابت المناطق المنكوبة. يبدو أن كون مصر' محروسة' بالقديسين وأولياء الله الصالحين لن يحميها دوما من الكوارث والأزمات الطبيعشية التي تطلقها الطبيعة ليس علي مصر فحسب, ولكن علي كل دول العالم, أو الأزمات الصناعية التي هي من صنع الإنسان الذي حين يفقد الحكمة, أو تتملكه الحماقة, يكون قادرا علي صنع أزمات وكوارث أكثر من قدرة الطبيعة علي صنعها. وخلال السنوات العشر الماضية فقط شهدت مصر تزايدا في الكوارث والأزمات مقارنة بفترات سابقة, علي نحو ما حدث بالنسبة لحادث قطار الصعيد الذي وقع في20 فبراير2002 وحادث احتراق قصر الثقافة ببني سويف في5 سبتمبر2005, وحادث غرق العبارة السلام في2 فبراير2006, وحريق مجلس الشوري في19 أغسطس2008, وحادث الدويقة في6 سبتمبر2008, فضلا عن التزايد الملحوظ في حوادث الطرق وما ينجم عن هذه الكوارث من خسائر سواء كانت بشرية أو مادية. وما نتج عن تلك الأزمات من آثار جعل من كل منها كارثة حقيقية, فالكارثة كما هو متفق عليه في الأدبيات هي' الحدث الذي تترتب عليه آثار مدمرة وتنتج عنه وفيات وإصابات, ولا يمكن وقف آثاره تماما, بل قد تمتد آثاره للمستقبل, والكوارث بعضها طبيعية مثل الزلازل والسيول والأعاصير والفيضانات, وبعضها نتيجة فعل الإنسان وتدخله غير الرشيد في التوازن الطبيعي'. وفي كل الأحوال فإن ما حدث في السنوات الماضية يشير إلي أن غضب الطبيعة قد يأتي بأعنف من قدرة البشر علي المواجهة والتحكم, ولكنه يثير في الوقت ذاته عدة قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة تحت وطأة ظروف قاسية. وعندما تقع الأزمة أو الكارثة فعليا, يتم أحيانا اكتشاف وجود مشكلة حادة تتعلق بعدم القدرة علي التعامل معها عمليا, بل إن المشاهد أحيانا يلمس وقع المفاجأة علي الأجهزة المعنية حتي أنها تصاب بنوع من الشلل بما يكشف أوضاعا مؤلمة تتطلب إصلاحات كثيرة بغض النظر عما إذا كانت الأزمات واقعة أم لا. ومن هنا, فإن تكرار حدوث الأزمات والكوارث في مصر يشير إلي حالة من الإهمال الشديد في بعض القطاعات الخدمية المهمة, وهو ما تشير إليه حوادث الطرق والسكك الحديدية المتواترة, وهو ما دعا البعض إلي القول إن الاتجاه السائد في مصر هو الإدارة بالأزمات وليس إدارة للأزمات, بمعني أنه لا توجد رؤية علمية محددة للتنبؤ بحدوث أزمة في المستقبل وبلورة آليات للتعامل معها فور حدوثها وربما إيقافها من المنبع, وهو ما يشير إلي أن البعد الوقائي في إدارة الأزمات في مصر لايزال غائبا. وبكل صراحة فإن لدينا في مصر مشكلة فعلية في عملية التنبؤ بالأزمات عبر إنذار مبكر يتيح الاستعداد لها من خلال تحديد سيناريوهات معينة واعتمادات مالية وجهات جاهزة للتحرك, وذلك علي الرغم من وجود خرائط تفصيلية أحيانا لطبيعة المخاطر التي تواجه المناطق المختلفة في الدولة, كاحتمال غرق السفن في بعض المناطق الساحلية, أو احتمال انهيار الجسور في المناطق الزراعية أو السيول في المناطق الصحراوية, أو مشكلات المباني والمرافق والخدمات في المدن, فتبدو الكوارث دائما كأنها تفاجئ الجميع, علي نحو ما برز أخيرل. وهناك دعوة تطرح بين الحين والآخر, لإنشاء جهاز أو هيئة لإدارة الأزمات والكوارث في مصر, لكنها لم تخرج إلي حيز الواقع. وتتجدد الدعوة مرة أخري في أعقاب حدوث أزمة أو كارثة لكنها سرعان ما تخبو بعد ذلك, وهكذا علي الرغم من أن إدارة الكوارث كعلم تطبقه مصر منذ ما يقرب من ربع قرن, وتحديدا من خلال مقررات أكاديمية تدرس في أكاديمية ناصر العسكرية, وكذلك الحال بالنسبة لمركز إدارة الأزمات التابع لجامعة عين شمس, وإدارة الأزمات التابعة لمجلس معلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء, إضافة إلي اللجنة القومية لمكافحة الكوارث التابعة للمركز القومي للبحوث. ووفقا لما يطرحه الخبراء, فإن نسق مجابهة الأزمات والكوارث واضح من الناحية النظرية, ويتألف بصورة عامة من.. أولا: حصر مصادر الكوارث المتوقعة, وهي الكوارث التي وقعت لأنظمة مماثلة محليا ودوليا, والخبرات المكتسبة والتوقعات القائمة علي فهم الإشارات التحذيرية والتحليلات العلمية. وثانيا ترتيب الأزمات المتوقعة, بعد حصرها حسب قيمتها الاحتمالية وحجم الخسائر سواء المادية أو البشرية الناتجة عنها. وثالثا: تجهيز مراحل السيطرة والتعامل مع الأزمات المتوقعة, وهي مراحل الاستكشاف, ومراحل إعداد السيناريو للتعامل مع الأزمة ومرحلة الاحتواء ومنع الانتشار إلي مناطق أخري ومرحلة إعادة الأوضاع إلي ما كانت عليه ومرحلة تقييم الإنجازات. كل ذلك كان مقدمة ضرورية لمناقشة آخر الكوارث التي مرت بمصر وتعاملنا معها خلال الأسابيع الماضية حيث ضربت عدة مناطق في مصر_ خاصة محافظات شمال سيناءوجنوبسيناء وأسوان_ سيول غزيرة, وتجلت الأزمة في أبشع صورها في مناطق الشيخ زويد ووادي العريش ونخل والحسنة ورأس سدر وغيرها. وحتي وقت كتابة هذا المقال لم يتم تحديد قيمة الخسائر الإجمالية, وبشكل عام لم يتصد أحد لكي يجعل الرأي العام يعلم بقيمة هذه الخسائر. لكن هناك تقديرات أولية للخسائر بشمال سيناء, إذ أعلنت المحافظة أن قيمة الخسائر والأضرار نتيجة السيول تقدر بنحو94 مليون جنيه هي قيمة الأضرار التي لحقت بالمنازل والطرق والزراعة وشبكات الكهرباء والصرف الصحي. إضافة إلي خمس حالات وفيات وفقدان شخصين, فضلا عن10 مصابين. وللحق فإن رد الفعل من جانب الدولة جاء سريعا من مستويات مختلفة بدأت برئاسة الجمهورية فكانت الشرارة التي حركت كما هي العادة الأجهزة التنفيذية الأخري لمواجهة الأضرار التي أصابت المناطق المنكوبة. وتحركت الحكومة المصرية سواء بتقديم مبالغ مالية لأصحاب المنازل التي جرفتها السيول, أو بتقديم قطع من الأراضي لإعادة البناء, أو عبر قوافل الإعاشة والإغاثة, وإعادة التيار الكهربائي, وإعادة العمل علي معظم الطرق التي تضررت, فضلا عن اللقاءات التي جمعت رئيس الوزراء وعددا من الوزراء مع قيادات المحافظة لبحث الإسراع بإغاثة المضارين. وفي محافظة جنوبسيناء, تم فتح120 شقة بإسكان مبارك لإيواء المتضررين. أما بالنسبة لتحرك القوات المسلحة, فقد عمل فريق البحث والإنقاذ التابع لها علي تقديم العون والمساعدات للأفراد المتضررين في جميع المحافظات باستخدام طائرات تحمل كل ما تحتاج إليه عملية إغاثة المتضررين وعملية إنشاء معسكرات الإيواء المجهزة بجميع وسائل الإقامة, كما قدم مستشفي العريش العسكري الدعم الطبي للمنكوبين. وفي مجلس الشعب, قامت لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب بتفقد الأماكن المنكوبة للوقوف علي طبيعة الكارثة ومطالب الأفراد المنكوبين التي تمثلت في زيادة حجم التعويضات وتحري الدقة في صرف التعويضات لتصل إلي من يستحقها وسرعة بناء البيوت مرة ثانية. وفي الحزب الوطني جرت جهود لجمع التبرعات وتقديم المعونات وتعبئة المجتمع المدني من أجل الوصول إلي المضارين ومساعدتهم ورفع روحهم المعنوية. بالنسبة لدور مؤسسات المجتمع المدني, بدا أن هناك أهمية لتحرك منظمات المجتمع المدني مع الأجهزة المختصة في الدولة, بما يرفع من كفاءة الإغاثة والفعالية في العمل. وفي هذا الإطار, أسهمت جمعية الشباب لتنمية جنوبالوادي بأسوان في إغاثة متضرري السيول, حيث تم تقديم1000 بطانية إلي جانب مستلزمات منزلية, وذلك بالتنسيق مع المحافظة. وفي المحافظات الثلاث, يشارك مع لجان الإغاثة التي شكلتها وزارة التضامن الاجتماعي عدد من مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية, وتم توزيع المعونات العينية والنقدية علي المضارين وتجهيز مراكز الشباب والمدارس وبعض المخيمات لإيواء المضارين, وتوفير مختلف وسائل المعيشة لهم. كل هذه الجهود لا شك مشكورة وتعبر عن قدرة اقتصادية للتعامل مع الأزمات, وقدرة مجتمعية لتعبئة الموارد وترجمة التكاتف الاجتماعي في المجتمع. ولكن الأزمة من ناحية أخري تعكس أمراضا طال الحديث عنها وأولها ثقافي يقوم علي التواكل بصفة عامة, فعدم حدوث أزمة' طبيعية' من نوع أو آخر لفترة من السنوات يجعلها تضيع من الذاكرة الجماعية للإدارة, والشعب أيضا. فقضية البناء في مخرات السيول ليست قضية جديدة بالمرة بل إنها من الأمور التي تثار بصورة موسمية ومع ذلك فإنها تستمر. وثانيها أن هناك حالة من ضعف قدرة الدولة علي تطبيق القواعد والنظم التي وضعت بالفعل لمصلحة المواطنين ولكن اعتبار هذه القواعد جزءا من نتاج الحكومة المركزية يجعلها بعيدة ويمكن التغاضي عنها ويحرمها في العموم من الشرعية المحلية الضرورية للقبول الطوعي. وثالثها أن التعامل النشط مع الأزمة ظل مرتبطا بتحرك رئاسة الجمهورية سواء من قبل الرئيس أو السيدة الأولي بحيث بدت البيروقراطية علي استعداد لهز الأكتاف علي أساس أن السيول والزلازل من الأمور التي لا يمكن ردها, ولكن وجود سلطة الرئاسة بقوتها وتأثيرها جعل الحركة ممكنة. ورابعها أن أزمة السيول كانت شاهدا علي قدرة القوات المسلحة علي الاستجابة, ولكنها من جانب آخر أظهرت جميع المؤسسات غير قادرة علي التنبؤ بالكارثة وتجهيز البشر والمؤسسات للتعامل معها والتحضير للتعامل مع آثارها. فهل نستفيد هذه المرة من كارثة السيول للتعامل مع الكوارث المقبلة- لا قدر الله التي قد تكون سيولا أو زلازل أو نتائج مبكرة للاحتباس الحراري أو أمرا ما من صنع الإنسان ناتجا عن إهمال أو تقادم أو فشل إداري؟ [email protected]