بدأت المؤسسة العسكرية الأمريكية تتبنَّي دوراً دولياً جديداً، واسع النطاق، سيجبرها علي التدخل في العديد من الدول. بيد أن هذا التدخل سيكون في صورة دور، ستسعي جميع الدول تقريباً إلي دعمه، كما ينبغي أن يتم تبنيه علي نطاق واسع أيضاً، ألا وهو دور الدولة صاحبة الاستجابة الأولي للكوارث علي المستوي العالمي بهدوء، وربما من دون إدراك كامل، بدأت المؤسسة العسكرية الأمريكية تتبنَّي دوراً دولياً جديداً، واسع النطاق، سيجبرها علي التدخل في العديد من الدول. بيد أن هذا التدخل سيكون في صورة دور، ستسعي جميع الدول تقريباً إلي دعمه، كما ينبغي أن يتم تبنيه علي نطاق واسع أيضاً، ألا وهو دور الدولة صاحبة الاستجابة الأولي للكوارث علي المستوي العالمي. ولعل رفض حكومة "ميانمار" العسكرية الصادم، والكارثي في الحقيقة، للمساعدة الدولية في أعقاب الإعصار المدمر الأخير، قد غطي علي تطور إيجابي أوسع نطاقاً، يتمثل في السرعة المدهشة التي تم بها تقديم المساعدات المطلوبة، وخصوصاً من جانب الولاياتالمتحدة، مقارنة بالمساعدة المترددة في البداية التي قدمتها في كارثة المد البحري "تسونامي" في المحيط الهندي، والتي وصفت في حينها بأنها "شحيحة" من قبل "جان إنجلاند" وكيل الأمين العام للأمم المتحدة. هذه المرة تحدثت سيدة أمريكا الأولي "لورا بوش" بنبرة حاسمة عن المساعدات، عندما قالت إن الولاياتالمتحدة مستعدة لإرسال المساعدات المطلوبة فوراً. وهذا الاستعداد لا يعكس رغبة خيرة فحسب، وإنما يعكس إدراكاً بأن التعامل مع الكوارث الدولية قد أصبح يمثل أولوية من أولويات الأمن القومي الأمريكي. وعلي نحو ما، يمثل هذا تطوراً مثيراً للدهشة، لأن الاستجابة للكوارث الطبيعية، لم تكن أبداً من مهام العسكرية الأمريكية. فتلك الكوارث نادراً ما تستدعي اتخاذ قرارات بالشراء، أو تفكيراً استراتيجياً، وغالباً ما تكون الاستجابة لها مؤقتة ومتناسبة مع طبيعة الظروف. وهذا الوضع يتغير الآن. يتبين ذلك من الاستنتاج الذي توصل إليه "مركز التحليل البحري" وهو: "أن التغير المناخي يهدد بإضافة عوامل مناوئة، وضاغطة... ونظراً لأن الكوارث الواسعة النطاق تزداد انتشاراً فإن التدخل الأمريكي في هذا النوع من المهام يجب بالتالي أن يكون أوسع نطاقاً كذلك". وفي المحصلة كانت استجابة الولاياتالمتحدة لكارثة "تسونامي" التي وقعت في المحيط الهندي، هي الحاسمة. فبعد انتهاء الإعصار نشرت أمريكا 15 ألف جندي، وقوة مهمة مكونة من ناقلات، بالإضافة إلي قوة حملة بحرية في المنطقة، كما أقامت البحرية الأمريكية "قاعدة بحرية" قبالة سواحل إندونيسيا. وقد أدي وجود هذا الأسطول الصغير من السفن إلي سهولة نقل وتوصيل الإمدادات إلي الساحل، بعد أن تم تقريباً تدمير المرافئ والطرق بسبب مياه المد البحري الكاسح. ويتبين كل ذلك من التعليق الذي جاء علي لسان رئيس هيئة الأركان العامة الأدميرال "مايك مالين" الذي قال في ذلك الوقت: "لقد بنينا فعلياً مدينة في البحر ليس لها غرض سوي خدمة أهداف شعب آخر... وليست هنالك دولة في العالم لديها هذه القدرة سوي الولاياتالمتحدة". ولا يزال هناك طريق طويل أمام إندونيسيا قبل أن تتمكن من التعافي بشكل كامل من آثار ذلك الطوفان المدمر، ولكن الأمر الذي لاشك فيه أن تلك الاستجابة الأمريكية قد أحدثت فارقاً مهماً. وهذه المساعدات لم تمضِ دون ملاحظة، حيث بين استطلاع للآراء أجراه "معهد بيو للأبحاث" أن 80 في المئة تقريباً من المواطنين في هذه الدولة، التي توجد بها أكبر أغلبية من السكان المسلمين في العالم، أصبح لديهم رأي أكثر إيجابية تجاه الولاياتالمتحدة واستجابتها لكارثتهم. وما نجح في الخارج طُبق أيضاً في الداخل. ففي أعقاب إعصار "كاترينا" عام 2005 أقامت القوات البحرية الأمريكية قاعدة وسط البحر أمكنت منها مساعدة "نيوأورلينز". وفي نفس العام الذي حدث فيه ذلك، وفي أعقاب زلزال مدمر في باكستان، أرسلت واشنطن مساعداتها دون ضجيج، وأظهر التليفزيون الباكستاني طائرات الهليوكوبتر الأمريكية، وهي تنقل المساعدات إلي القري الواقعة في المناطق الجبلية النائية، كما أظهر الأطقم الطبية الأمريكية وهي تساعد الجرحي والمصابين. كما تم أيضاً إرسال قوة حملة بحرية إلي بنجلادش لمساعدتها علي مواجهة الطوفان المدمر الذي تعرضت له. ولاشك أن البحرية الأمريكية تبدو راضية عن أدائها في تلك المهام، بدليل أنها وزعت نشراتٍ إعلانيةً في مراكز التدريب تبرز دورها في الإنقاذ من الكوارث. وإن كان هذا لا ينفي وجود البعض ممن يرون أن ارتداء عباءة أسرع الدول استجابة للكوارث يصرف النظر عن الهموم الأمنية "الحقيقية". والرد علي هؤلاء هو أن المشاركة في تلك العمليات تؤدي إلي تعزيز المصالح الأمريكية للأسباب التالية: أولاً، لأن تلك المهام تساعد علي إرساء الاستقرار، وخصوصاً أن الكوارث غالباً ما تعقبها حالة من الفوضي والقلاقل التي يمكن أن تنتشر خارج نطاق منطقة الكارثة. ثانياً، تساعد تلك المهام أيضاً علي تحسين صورة الولاياتالمتحدة لأنها تظهر حسن نية شعبها، كما يمكنها بالتالي المساهمة في تحسين وضع أمريكا -في نظر الرأي العالم العالمي، كما حدث في إندونيسيا علي سبيل المثال. ثالثاً، أن هذه المهام تساعد علي إعطاء صورة أكثر إيجابية عن الموقف العسكري الأمريكي العالمي، لأن دول العالم المختلفة ستكون في هذه الحالة أكثر استعداداً للقبول بالوجود العسكري الأمريكي، إذا ما تأكدت أن الغرض من هذا الوجود هو تقديم يد المساعدة في حالة وقوع الكوارث، وهو ما يمكن أن يساعد واشنطن علي تعزيز علاقاتها مع الكثير من دول العالم مثلما حدث مع حكومة بنجلادش عندما أدت الاستعدادات المشتركة بين الدولتين إلي تجنب وقوع كارثة أشد هولاً. وأخيراً، وليس آخراً، فإن الاستجابة للكوارث الطبيعية هي الثمن الذي يجب علي الولاياتالمتحدة أن تدفعه باعتبارها أكبر قوة في العالم. فباعتبارها الضامن الأول للأمن العالمي، فإن العالم يتطلع للولايات المتحدة ليس فقط لقدرتها علي ردع التهديدات، وإنما أيضاً لقدرتها علي تقديم المساعدات في حال الكوارث، عندما تشتد الحاجة إليها.