شيخ الأزهر يبحث مع رئيس التنظيم والإدارة مراحل تعيين 40 ألف معلم    برواتب تصل ل50 ألف جنيه.. فرص عمل في البوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية    أهمية دور الشباب بالعمل التطوعي في ندوة بالعريش    رئيس تجارية الإسماعيلية يكشف تفاصيل جديدة حول مهرجان المانجو    بتكلفة تتجاوز 90 مليون جنيه.. تطوير وصيانة مدارس المنيا    بث مباشر.. المؤتمر الصحفي الأسبوعي لرئيس الوزراء    زلزال بقوة 6.03 درجة على مقياس ريختر يضرب شرق روسيا    الزمالك يهنئ ياسر إدريس بحصوله على منصب نائب رئيس الاتحاد الدولي للسباحة    القبض على سائق ميكروباص بعد اصطدامه بحاجز الأتوبيس الترددي أعلى الطريق الدائري (صور)    تعاون مصري إيطالي لإنشاء وتطوير5 مدارس للتكنولوجيا التطبيقية بمجالات الكهرباء    إخلاء سبيل 38 متهما بنشر أخبار كاذبة    طب بنها تطلق مؤتمر "جسور نحو تنمية صحية شاملة" ضمن فعالياتها العلمية    ترامب: الهند ستدفع تعريفة جمركية بنسبة 25% اعتبارًا من أول أغسطس    توقعات الأبراج في شهر أغسطس 2025.. على برج الثور الاهتمام بالعائلة وللسرطان التعبير عن المشاعر    محافظ المنوفية تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس الشيوخ 2025 ب 469 لجنه انتخابية    المصري يواصل تدريباته في سوسة.. والكوكي يقترب من تحديد الودية الرابعة    "لدينا رمضان وإيفرتون".. حقيقة تفاوض بيراميدز لضم عبدالقادر    سباحة - الجوادي يحقق ذهبية سباق 800 متر حرة ببطولة العالم    نوير يدرس التراجع عن الاعتزال من أجل كأس العالم    هوجو إيكيتيكي يشارك في فوز ليفربول بثلاثية على يوكوهاما وديًا.. فيديو    الداخلية السورية: مزاعم حصار محافظة السويداء كذب وتضليل    التحقيق مع صانعة محتوى شهرت بفنانة واتهمتها بالإتجار بالبشر    الداخلية تكشف ملابسات فيديو اعتداء سائق ميكروباص على أسرة أعلى الدائري    إصابة 7 أشخاص في انقلاب سيارة بالفيوم    العثور على دقيقة مفقودة في تسجيلات المجرم الجنسي إبستين تثير الجدل.. ما القصة؟    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بمجلس الشيوخ    حركة فتح: إعلان نيويورك إنجاز دبلوماسى كبير وانتصار للحق الفلسطينى    زياد الرحباني... الابن السري لسيد درويش    أحمد درويش: الفوز بجائزة النيل هو تتويج لجهود 60 عاما من العمل والعطاء    تغطية الطرح العام ل "الوطنية للطباعة" 8.92 مرة في ثالث أيام الاكتتاب    رئيس الوزراء: استراتيجية وطنية لإحياء الحرف اليدوية وتعميق التصنيع المحلي    المشدد 7 سنوات لعاطلين في استعراض القوة والبلطجة بالسلام    مصر تواجه تونس في ختام الاستعداد لبطولة العالم لكرة اليد تحت 19 عام    مصنعو الشوكولاتة الأمريكيون في "ورطة" بسبب رسوم ترامب الجمركية    "زراعة الشيوخ": تعديل قانون التعاونيات الزراعية يساعد المزارعين على مواجهة التحديات    تكثيف أمني لكشف جريمة الزراعات بنجع حمادي    رئيس جامعة بنها يترأس اجتماع لجنة المنشآت    "التضامن" تستجيب لاستغاثات إنسانية وتؤمّن الرعاية لعدد من السيدات والأطفال بلا مأوى    مي طاهر تتحدى الإعاقة واليُتم وتتفوق في الثانوية العامة.. ومحافظ الفيوم يكرمها    الرعاية الصحية تعلن تقديم أكثر من 2000 زيارة منزلية ناجحة    لترشيد الكهرباء.. تحرير 145 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار الغلق    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    أبو مسلم: جراديشار "مش نافع" ولن يعوض رحيل وسام ابو علي.. وديانج يمتلك عرضين    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة    مبيعات فيلم أحمد وأحمد تصل ل402 ألف تذكرة في 4 أسابيع    ما حكم كشف وجه الميت لتقبيله وتوديعه.. وهل يصح ذلك بعد التكفين؟.. الإفتاء تجيب    علي جمعة يكشف عن حقيقة إيمانية مهمة وكيف نحولها إلى منهج حياة    هل التفاوت بين المساجد في وقت ما بين الأذان والإقامة فيه مخالفة شرعية؟.. أمين الفتوى يجيب    ما معنى (ورابطوا) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟.. عالم أزهري يوضح    ملك المغرب يؤكد استعداد بلاده لحوار صريح وأخوي مع الجزائر حول القضايا العالقة بين البلدين    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    ترامب يكشف عن تأثير صور مجاعة قطاع غزة على ميلانيا    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    استقرار سعر الريال السعودي في بداية تعاملات اليوم 30 يوليو 2025    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    رسميًا.. جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 بعد تصريحات وزارة المالية (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمة العالمية وسقوط الأصولية الرأسمالية‏(2‏ 2)‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 02 - 2010

تؤكد الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وما تسببت فيه من كوارث فادحة في الربع الأخير من عام‏2008‏ وما نتج عنها من تداعيات صادمة مازال العالم يعاني من نزيفها المدمر حتي الأن‏. ان الاصولية الرأسمالية التي تحكمت في مسار العالم وتوجهاته بشكل واضح منذ التسعينيات من القرن الماضي تعد بجميع المقاييس والمعايير بمثابة الأسوأ والأكثر قبحا بين ما انتجه العقل البشري من أفكار وأيديولوجيات وللأسف الشديد فإن هذه الحقيقة اكتشفها العالم مع الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين وما صنعه من تدمير واسع النطاق للاقتصاد العالمي وكان الحل الوحيد للانقاذ وللسلامة يرتبط برفض أوهام الأصولية الاقتصادية واعلان الثورة عليها وعلي خرافات قوي السوق الخفية القادرة علي التصحيح والتصويب وتهميش دور الدولة واعتبار تدخلها في النشاط الاقتصادي في حكم كبيرة الكبائر التي لا تغتفر باعتبار ان قوي السوق هي الخير الأعظم وان الدولة وتدخلها هو الشر الأكبر وبحكم ان ذاكرة العالم ضعيفة وبليدة في مواجهة الإغراء والتشويه‏,‏ فقد عاد العالم لتبني أيديولوجية الرأسمالية المتوحشة‏,‏ فدخل الي النفق المظلم للأزمات الكارثية ليكتشف ان أيديولوجية الخلاص الرأسمالي الاصولية قد أوقعته في فخ رأسمالية كازينو القمار بكل طقوسها وممارساتها في ظل شيوع رأسمالية المضاربة وسيادة الرأسمالية المالية علي ماعداها‏,‏ وتحول الاقتصاد الورقي المرتبط بالأوراق المالية وعلي الأخص المشتقات المالية المسمومة الي محور الاهتمام العالمي مع الاهمال المتزايد للاقتصاد السلعي اللازم لتوفير الاحتياجات الضرورية للحياة‏.‏
في ظل النظام الشيوعي والاشتراكي ومع الامبراطورية السوفييتية ومعسكرها الاشتراكي وتوابعها علي امتداد قارات العالم اكتشف العالم فداحة الكارثة الانسانية والاجتماعية والاقتصادية عندما تتدخل الدول في حياة البشر وتدعي مسئوليتها عنهم من المهد الي اللحد‏,‏ وتمتلك نيابة عنهم كل مصادر الثروة وتحول المواطن مهما كانت كفاءته وقدرته إلي مجرد رقم في طابور طويل لاينتهي‏,‏ واكتشف العالم فداحة الكارثة الانسانية في غياب المشاركة السياسية الحقيقية وفرض الاستبداد والديكتاتورية بحكم الحزب الواحد والفرد الواحد الذي هو الزعيم الذي لايخطئ ودائما هو فقط الصائب وجاءت الأصول الرأسمالية في المقابل كأيديولوجية لتقدم مصائر الدول والشعوب فريسة سهلة وسائغة لشعار غيبي ووهمي لا يمكن اثباته علميا ويستحيل التدليل عليه واقعيا يسمي قوي السوق الخفية‏,‏ والغريب علي ان كل التقدم العلمي والتكنولوجي العالمي وارهاصاته في الثقافة والحياة اليومية للمواطن لم يفرز رفضا للحديث عن القوي الخفية التي تحكم العالم وأسواقه وأنشطته بكل تشابكها وبكل تصادمها وتقابلها‏,‏ والأكثر غرابة انه لم يفرز استغرابا وتعجبا شديدا من قدرة هذه القوي الخفية علي التصحيح والتصويب التلقائي والضروري بالمخالفة للمنطق العالمي القائم علي رفض المسلمات والغيبيات والقائم علي السببية والتسبيب في كل الأشياء والعلاقات وربط المقدمات بالنتائج كعلامة ضرورية للمنطق الصحيح والسليم وكأن العلم وحضارة العالم وركائزها ودعائمها الرئيسية تفقد كل سلطانها وفعاليتها في مذبح قوي السوق الخفية وقدراتها الخارقة والفائقة الخارجة عن مألوف المنهج العلمي وقواعده وضوابطه‏.‏
بمنطق التجربة العالمية الواقعية الصارم شديد الدقة فإن الارتكاز الي قوي السوق الخفية والاصرار علي ترك اصلاح وتصويب الكساد العظيم في الثلاثينيات مع اوهام قدرتها الخفية الجبارة والطاغية أثبت فشله الذريع وأدي لتضاعف حدة الأزمة التي بدأت عام‏1929‏ وتصاعدها مع رفض الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت هيوبرت همفري ووزير ماليته تدخل الحكومة للإصلاح والتصويب‏,‏ وتم الاصلاح والتصويب بصورة فعالة وفاعلة مع تولي الرئيس تيودور روزفلت للحكم عام‏1932‏ وقناعته بحتمية تدخل الحكومة المكثف لتصحيح وتصويب أخطاء قوي السوق الغاشمة والفادحة الذي سمي بالسياسة الجديدة ومعها تدخلت الحكومة في كل شيء وأصدرت التشريعات لتنظيم كل شيء وقامت بالرقابة الدقيقة والمكثفة علي النشاط الاقتصادي ولاحقت الاحتكارات والممارسات الضاربة بالمستهلك وسعت لفرض رقابة لصيقة علي الانشطة والمعاملات المالية والمصرفية وتبنت سياسات اجتماعية لمساندة الأقل دخلا وقدرة ومقدرة‏,‏ وتوسعت في نظم الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وإعانات البطالة والفقر وسياسات التحفيز للمزارعين والزراعة وساندت في نفس الوقت انتعاش المنشآت والأعمال والأنشطة حتي وصلت ذروة سطوة اصحاب الأعمال الي اطلاق شرارة الحرب العالمية الثانية بكل كوارثها الانسانية المروعة وايضا بكل نتائجها الاقتصادية في التشغيل وانتعاش الصناعات العسكرية والحربية وانتهاء بصياغة واقع عالمي جديد من حيث موازين القوي والنفوذ والسلطان علي امتداد خريطة العالم وقاراته وكذلك من حيث حسابات القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية ليعلن كل ذلك عن غروب شمس امبراطوريات قديمة وبزوغ شمس امبراطوريات جديدة‏.‏
فساد حديث القوة الخفية‏...‏ ولغز البقاء بالرغم من الكوارث المروعة
وعلي الرغم من كل هذه الخبرات العالمية القاسية والمريرة تحت ظلال الأصولية الرأسمالية واليقين بأن تجاوز الكساد العظيم يرتهن بالثورة علي ثوابتها الراسخة‏,‏ إلا ان سطوة اليمين المحافظ الانجيلي علي مقاليد الحكم في أمريكا خاصة مع تولي رونالد ريجان ممثل السينما المغمور لمقاليد الحكم والرئاسة قد أعاد الأصولية الاقتصادية الي الحياة بقوة وعنف باعتبارها الجناح الاقتصادي للأيديولوجية الاصولية المسيحية الصهيونية التي هي ايديولوجية اليمين المحافظ الأمريكي والأوروبي وانتشرت دعوة ريجان الاصولية مع تبني مارجريت ثاتشر رئيس وزراء بريطانيا لمقاليد الحكم وتبنيها سياسات متكاملة لتحويلها الي حقيقة واقعة علي أرض الواقع والمثير والملفت للانتباه ان أزمة مديونية امريكا اللاتينية وانهيار اقتصادات دولها والاعلان عن عجزها وتوقفها عن سداد المديونيات للمؤسسات المالية والبنوك الخارجية وما ترتب عليها من أزمة مصرفية ومالية وعالمية لم تكن عوامل دافعة لمراجعة سلبيات التطبيق للأصولية الرأسمالية وما سبقها من ازمة مالية حادة وانفجار مدوي للفقاعة العقارية وانهيار واسع النطاق لبنوك الادخار والبنوك الصغيرة والمتوسطة في ظل حكم الرئيس جيمي كارتر وصل معها عدد البنوك المفلسة الي‏540‏ بنكا‏,‏ ويرجع ذلك ببساطة لان هذه الأزمة وغيرها كانت تصب في النهاية في خانة قوي النفوذ والسلطان والمال والاقتصاد العالمي ثم جاءت أزمة النمور الاقتصادية الاسيوية في خريف عام‏1997‏ لتدق جرس انذار صاخب عن الفساد في النظام المالي العالمي وتجاوز البنوك الدولية العملاقة والديناصورية عن الاصول وقواعد الأمان المصرفي عند منح القروض وثبوت ان مؤسسات العالم قدمت قروضا قصيرة الأجل بفائدة مرتفعة وفترات سداد قصيرة لأنشطة تحتاج بالضرورة لقروض طويلة الأجل وهو ما يعني ببساطة شديدة ان الجدارة الائتمانية غير موجودة وان حسابات الأمان للقروض التي تتوالي غائبة تماما بالقصد والعمد‏.‏
وفي الأزمة الآسيوية وفي أزمة مديونية أمريكا اللاتينية ثبت التواطؤ في الفساد والتلاعب والنصب والتزوير بين بنوك الدول الآسيوية وبين المؤسسات المالية والبنوك العالمية وثبت أيضا مشاركة البنوك المركزية في التستر علي الفساد وكانت النتيجة الطبيعية والمنطقية الانهيار الواسع النطاق للمؤسسات المالية والبنوك الكبري خاصة في اندونيسيا وتايلاند وحتي في كوريا الجنوبية وفتحت ملفات مالية واقتصادية واسعة النطاق للفساد الضاري بحجة التحرير وتحت ستار اطلاق وتفعيل قوي السوق الخفية وكشفت الكارثة الاسيوية عن عملية تزييف واسعة النطاق شملت موازنات الدول وموازينها الخارجية وتجارتها العالمية واحتياطاتها من النقد الأجنبي ومديونياتها الدولية كما اكتشف الجميع في الداخل والخارج ان المضاربات المالية والارتفاعات الوهمية للبورصات وغياب الشفافية والرقابة عليها كانت سببا رئيسيا لكارثية الأزمة يضاف كذلك مسببات الفساد السياسي المستشري الذي منح الرعاية والحماية لكافة صور الفساد وأشكاله وصنوفه‏.‏
ولا يقل عن هذه الاكتشافات أهمية ما تم التأكيد عليه بوضوح عن أن الدول الاسيوية الناهضة الأقل تطبيقا لسياسات التحرير الاقتصادي والأكثر تدخلا في الرقابة والضبط للمؤسسات المالية والبنوك والبورصات وعمليات النقد الأجنبي وتحويلاته مثل ماليزيا كانت هي الدول الأقل تضررا من الكارثة الاسيوية وأن هذه الدول التي رفضت تطبيق روشتة الاصلاح الصادرة عن صندوق النقد وعن البنك الدولي وغيره من الجهات الدولية النافذة والفاعلة وتمسكت بتدخل الدولة لضمان التصحيح والتصويب‏,‏ كانت هي الدول الأسرع في عبور الأزمة وكانت فاتورة تكاليف الازمة في محصلتها النهائية هي الأقل وعلي الرغم من هذه الحقائق الصادرة عن معمل الاختبار المالي والاقتصادي لتحليل الأزمات والكوارث وتوصيف سياسات قادرة علي تجاوزها وتلافيها بالحد الأدني من الخسائر الاقتصادية والمالية والانسانية الا ان الكثير من الدول النامية تسابقت في تطبيق روشتات الإصلاح المضروبة التي يغيب عنها الوجه الانساني والاجتماعي للتنمية وتغرس بذور الفساد والنصب والاحتيال والتزوير في الحياة والنشاط وذلك تحت ضغط القوة الخفية المهيمنة علي ادارة شئون العالم وتصريف أموره وواجهاتها العلنية التي تتمثل في مراكز اتخاذ القرار السياسي بالعواصم العالمية الكبري‏.‏
المضاربة ورأسمالية كازينو القمار‏...‏ والمشتقات المالية المسمومة
ومع الأزمة المالية العالمية اكتشف العالم ان الاصولية الرأسمالية تدير الاقتصاد العالمي بمنطق واسلوب رأسمالية كازينو القمار وذلك بحكم سطوة وسيطرة المضاربة علي الأسواق العالمية وقدرتها علي جذب الجانب الأكبر من ثروات العالم وأمواله ومدخراته وان المضاربة لم تعد ساحتها فقط الأوراق المالية المتعارف عليها من الأسهم والسندات ولكنها أصبحت خاضعة الي نوعية جديدة من الأوراق المالية المبتكرة والحديثة المسماة بالمشتقات المالية وهي نوعية من الأدوات المالية الافتراضية يتم من خلالها عمليات بيع وشراء لعملات وسلع وخدمات وأصول افتراضية غير موجودة في الواقع الفعلي لدي البائع ومساهمة هذه المشتقات المالية في اختلالات حادة في أسواق السلع العالمية وكانت مضارباتها الافتراضية سببا رئيسيا من أسباب جنون سعر برميل النفط الخام وارتفاعه مع يوليو‏2008‏ الي نحو‏150‏ دولارا للبرميل الواحد وساهمت في اضطراب الأسعار بسوق السلع الغذائية والحاصلات الزراعية وكذلك سوق الخامات التعدينية ومع الخروج عن القواعد المستقرة والمألوفة السابقة تحكم في الاقتصاد العالمي عقلية المغامرة المحمومة بكازينوهات القمار واتسع نطاق الاقتصاد الورقي المالي بصورة شديدة التضخم مع وصول قيمة المشتقات المالية المسمومة عالميا الي تقديرات تراوحت بين‏50‏ تريليونا و‏70‏ تريليون دولار تتجاوز قيمتها قيمة الناتج المحلي الإجمالي من السلع والخدمات سنويا وقد حققت معاملات المشتقات المالية وعمليات اعادة تدوير الديون والمديونيات ارباحا وهمية فلكية لأطراف التعامل‏,‏ وساد العالم الاقتصاد الورقي الافتراضي الذي تتحقق فيه الأرباح والثروات والعوائد من الاتفاق التآمري بين الاطراف العملاقة والفاعلة علي خريطة العالم المالية بتبادل عمليات البيع والشراء فيما بينها ودخول شركات التأمين العالمية الكبري في أمريكا طرفا في المعاملات لإسباغ المشروعية علي المعاملات وتوفير ضمان وهمي للأعمال والأنشطة المالية غير المشروعة‏.‏
وبزغت للوجود شركات مالية من نوعية جديدة للقيام بالترويج لهذه الأنشطة والأعمال بلغت تقديرات قيمة أصولها المالية قبل الأزمة نحو تريليوني دولار وخسرت مع الأزمة نحو‏50%‏ من هذه الأصول وتسمي صناديق التحوط الاستثماري وجرف طوفان الإعصار المالي العالمي مدخرات المعاشات الهادفة لتوفير المستقبل الآمن للبشر بعد التقاعد حيث خسرت صناديق المعاشات في أمريكا التي تدير نظم المعاشات الخاصة تريليوني دولار خلال شهرين بعد اندلاع الأزمة في سبتمبر‏2008‏ وأشارت التحليلات والحسابات الاقتصادية الي امتداد الخسائر الي الدول الأوروبية وعلي الأخص بريطانيا واختفت مع الأزمة البنوك الاستثمارية العملاقة في أمريكا واندمجت البنوك والمؤسسات المالية الديناصورية مع اتساع دائرة الأصول الرديئة وتجمدت معاملات البنوك فيما بينها والمسماة الانتربنك التي تعد الدعامة الرئيسية لتوفير السيولة ومواجهة الاحتياجات اليومية بدرجة عالية من الثقة والاطمئنان واضطرت البنوك المركزية للتدخل الواسع النطاق لتوفير السيولة للمؤسسات المالية والبنوك‏,‏ كما اضطرت للتدخل للدعم المباشر بالدخول كطرف رئيسي في الملكية لزيادة رأس المال والاصول فيما يشبه التأميم خاصة مع ارتباط هذه الخطوات بتغيير مجالس الإدارة والتدخل بتعيين مجالس ادارة جديدة مما أرهق الميزانيات العامة للدول الصناعية الكبري ورفع من عجز موازناتها العامة بشكل كبير وضخم من قيمة المديونية الحكومية والعامة بما يجاوز حدود الأمان الاقتصادي والمالي المتعارف عليها‏.‏
الخسائر الضخمة للأصول‏..‏ ومراجعة جذرية للسياسات الضريبية
وقد نتج عن تبني مفهوم رأسمالية كازينو القمار واحاطتها بترسانة مفاهيم الفساد وغياب الرقابة والضبط والسيطرة الي حدود السماح بالانفلات الكامل والمطلق ان النتائج الأولية والحصر المبدئي للخسائر العالمية جاء ليفوق الخيال الجامح مع كشف تقديرات بنك التنمية الاسيوي الصادرة في أوائل مارس عام‏2009‏ عن أن الخسائر الحقيقية لأزمة الائتمان عام‏2008‏ أي خلال سبتمبر ديسمبر تبلغ نحو‏50‏ تريليون دولار تعادل قيمة الناتج الاجمالي العالمي السنوي كما كشفت عن ان خسائر الاقتصادات الاسيوية الحقيقية تبلغ نسبتها‏105%‏ من الناتج المحلي الاجمالي السنوي وتتراجع في باقي قارات العالم بين‏80%‏ و‏85%‏ من الناتج المحلي الاجمالي السنوي‏.‏
وعلي مستوي المؤسسات المالية والبنوك فقد شهدت بالفعل حركة نشيطة لسحب جانب مهم من الايداعات لديها بكل ما يعنيه من ارتفاع مخاطر انخفاض السيولة المتوافرة لدي البنوك ككل ولدي كل بنك علي حدة وما يعكسه ذلك في النهاية من عجزها عن تقديم القروض والتسهيلات المصرفية اللازمة والضرورية لانتظام نشاط الاقتصاد العالمي وأدي ذلك الي تضرر النشاط والمعاملات في الدول الصناعية الكبري وفي الدول النامية بصورة كبيرة وتعرضت حركة التجارة الدولية لأزمة حادة مع انخفاض قدرة البنوك والمؤسسات المالية العالمية علي توفير الضمانات المصرفية اللازمة لاتمام عمليات الاستيراد والتصدير العالمية مما أدي لانخفاض التجارة العالمية لأول مرة منذ سنوات طويلة وساهم في تعميق الركود العالمي وعلي سبيل المثال فإن البنوك السويسرية مع اندلاع الأزمة من عام‏2008‏ فقدت نحو‏25%‏ من الايداعات المتوافرة لديها بقيمة قدرها‏1.2‏ تريليون دولار ثم تواصلت خسائرها من الايداعات مع عام‏2009‏ لتصل لنحو‏50%‏ من جملة الايداعات‏.‏
وقد فرضت الأزمة تعديلا جوهريا علي فلسفة التشريعات الضريبية في أكثر الدول تشددا وتمسكا بالاصولية الرأسمالية متمثلة في بريطانيا وأمريكا وكانت مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في الثمانينات قد خفضت ضريبة الدخل علي الأكثر غني وثروة من معدل‏60%‏ سنويا الي معدل‏40%‏ وقلصت الاعفاءات والمزايا الضريبية للأقل غني وثروة وكذلك فعل جورج بوش الابن خلال رئاسته لأمريكا ومع الازمة اضطرت الحكومة البريطانية لرفع ضريبة الدخل للأغنياء من‏40%‏ الي‏45%‏ ورفعت حد الاعفاء الضريبي الي‏150‏ الف جنيه استرليني وثبتت ضريبة المشروع الصغير عند أقل من النصف لسعر‏21%,‏ وقررت تخفيضا عاجلا لضريبة القيمة المضافة علي السلع والخدمات بمعدل‏2.5%‏ لتخفض من‏17.5%‏ الي‏15%‏ ومعروف علميا ان ضريبة القيمة المضافة كضريبة غير مباشرة يتحمل العبء الأكبر من حصيلتها الأقل دخلا والأقل مقدرة مالية وقد سار باراك أوباما الرئيس الأمريكي الجديد علي نفس النهج ورفع الإعفاء الضريبي الي‏250‏ ألف دولار للفرد كما رفع ضريبة الدخل علي الشرائح الأعلي والأغني من‏36%‏ الي‏39.6%‏ ويسعي بشكل مكثف لزيادة فعالية السياسات الاجتماعية لمساندة الأقل دخلا مع التركيز علي توسيع مظلة التأمين الصحي العام ورفع كفاءته وإمكانياته‏.‏
‏***‏
وقد كشفت الأزمة الكارثية العالمية عن حقائق ما كانت تخطر بعقل بشر حيث دفعت بمؤسسات التقويم المالي الدولية الي قفص الاتهام بتهمة النصب والتزييف والتدليس في تقييمها للدول والمؤسسات والمنشآت علي مستوي العالم وهو التصنيف الذي يعد المرجعية الدولية للحصول علي القروض والتعامل مع أسواق المال العالمية ووفقا للجدارة الائتمانية التي يقررها التصنيف ويحددها يتم حساب اعباء التأمين علي مخاطر قروض ومديونيات هذه الدول والشركات وعندما ترتفع الجدارة الائتمانية تنخفض الأعباء التأمينية وتزداد القدرة في الحصول علي القروض‏,‏ وعندما تنخفض يحدث العكس وعندما تتدني يصل الأمر الي حالة العجز عن الاقتراض بل يصل الحال كعقوبة للتعرض لضغوط لسرعة السداد للمديونية وفقا للقواعد المتعارف عليها عالميا لشروط الاقتراض والقروض ويعد ذلك خللا رهيبا في النظام المالي العالمي ناقشته قمم العالم الأخيرة ولم تصلحه وتضبطه‏.‏
وحتي تعود الرأسمالية مرة أخري نظاما للاستثمار وتحفيزه وتشجيعه للارتقاء بالانتاج السلعي والخدمي اللازم لحياة البشر وتبتعد عن وضعها الحالي التي حولها الي نظام للمضاربة والمضاربين‏,‏ فإن المقترحات المثارة في أمريكا تحديدا وعلي نطاق واسع تدعو الي فرض ضريبة علي مضاربات البورصة وتحميل الارباح التي تتحقق من المضاربات بالعبء الضريبي كباقي الأنشطة الاقتصادية بما يساهم في تقليل وتيرة المضاربة ويقلل من الحوافز التي تساهم في تضخيم دور الرأسمالية المالية وتدفع بالعالم للغرق في مستنقع الاقتصاد الرقمي الافتراضي‏.‏
وبالرغم من كل مفاسد الأصولية الرأسمالية وكوارثها المدمرة والقاسية إلا ان ابعادها وركائزها الايديولوجية والعقائدية وطموحاتها واوهامها السياسية والعنصرية في حكم العالم والتحكم في مصائره ومقاديره وثرواته وموارده يظل قوة قاهرة لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأن نفوذها وسطوتها علي العالم واحداثه وتوجهاته وهو ما قد يفسر جوانب رئيسية من استمرار خضوع الكثير من دول العالم خاصة الدول النامية لسياسات ومخططات الأصولية الرأسمالية وعدم التحرك لتعديلها وتبديلها بالرغم من كل شرورها وفسادها ورذائلها ؟‏!‏
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.